الخوف من الله

 

 

الخوف من الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قطع نياط قلوب المخبتين، وزلزل نعيم حياة المقربين، وأسهر عيون الصادقين، إنه الخوف من الله -سبحانه وتعالى- ومن عذابه، إنه العذاب الأليم الذي ليس مثله عذاب، وإنه الوثاق والربط والأسر الشديد الذي لا وثاق ولا ربط ولا أسر أشد منه.. فيا تُرى لِمَ خاف أولئك وأمِنَّا نحن! لماذا خاف أولئك مع قربهم من الله وعمل الصالحات، وأمنا نحن مع تقصيرنا وقلة عملنا؟.. لا شك أن أكبر سبب لذلك هو معرفتهم لله، فلما عرفوه قدروه وعظموه وخافوه، ولما خافوه اقتربوا منه؛ لأنه لا منجى ولا ملجأ منه إلا إليه، كما قال الله -سبحانه- (( ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين))..

وفي هذا الدرس سنتعرف على أمور حول هذا المعنى العظيم: إنه الخوف من الله.

تعريفه:لغة: تدل مادة (خ  و ف) على الذعر والفزع، يقال: خفت الشيء خوفاً وخيفة، وخاف الرجل يخاف خوفاً وخيفة، ومخافة فهو خائف.. والأمر منه خَفْ بفتح الخاء.. وخاوفه فخافه يخوفه، غلبه في الخوف. أي أشد خوفاً منه.1

واصطلاحاً: عرفه الراغب الأصفهاني بقوله: توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة. ويضاده الأمن، ويستعمل ذلك في الأمور الدنيوية والأخروية(2).

 وعرفه الجرجاني فقال: الخوف توقع حلول مكروه، أو فوات محبوب(3). وقيل: فزع القلب من مكروه يناله أو من محبوب يفوته(4).

معانيه: ذُكر الخوف في القرآن ودل على عدة معاني:

1.  بمعنى الهزيمة، قال -تعالى-:{وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف}النساء 83.

2. بمعنى الحرب والقتال، قال –تعالى-: {فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد}الأحزاب 19.

3. بمعنى العلم والدراية، قال -تعالى-: {فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً} البقرة (182) أي علم.

4. بمعنى النقص، قال -تعالى-: {أو يأخذهم على تخوف}أي تنقص.

5. بمعنى الرعب والخشية من العذاب والعقوبة، قال –تعالى-: {يدعون ربهم خوفاً وطمعاً}5. وقال : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان) وآيات كثيرة في هذا المعنى.

ذكر الخوف في القرآن والسنة:

قال-تعالى-: {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق…إلى قوله: إني أخاف الله رب العالمين} المائدة 27-28. وقال -تعالى-: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين… إني أخاف الله والله شديد العقاب}الأنفال 46- 48، وغيرها.

و عن محمود بن لبيد– رضي الله عنه – أن رسول الله   قال: “إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر” قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ” الرياء، يقول الله – عز وجل – إذا جزي الناس بأعمالهم-:  اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً؟6.

 والأحاديث في ذكر الخوف كثيرة.

عناية السلف الصالح بهذا الأمر:

لقد تكلم السلف عن الخوف من الله، فهذا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- يقول:  لو نادى منادٍ من السماء: أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلاً واحداً لخفت أن أكون أنا هو.

وعن ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: وعد الله المؤمنين الذين خافوا مقامه، وأدوا فرائضه الجنة.

وبكى أبو هريرة – رضي الله عنه – في مرض موته، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي بُعْد سفري وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار، لا أدري إلى أيتهما يُؤخذ بي!!.

وقال عبد لله بن مسعود – رضي الله عنه-: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه جالس في أصل جبل يخشى أن ينقلب عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا.

 وقال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يَزُل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق.

 وقال الحسن: الرجاء والخوف مطيتا المؤمن. وقال عمر بن عبد العزيز: من خاف اللهَ أخاف اللهُ منه كلَّ شيء، ومن لم يخف اللهَ خاف من كل شيء.

وقال هرم بن حيان: وددت –والله- أني شجرة أكلتني ناقة، ثم قذفتني بعراً، ولم أكابد الحساب يوم القيامة، إني أخاف الداهية الكبرى!.

وقال أبو سليمان الداراني: إن أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله – عز وجل-، وكل قلب ليس فيه خوف فهو قلب خرب.

وقال الغزالي: إن الرجاء والخوف جناحان، بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كئود.

وقال أبو علي الروذباري:  الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير، وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهب صار الطائر في حد الموت..

وغيرها من الأقوال والآثار الجميلة.

نماذج من سيرة الخائفين:

1. سيد الخائفين  : عن أبي جُحيفة –رضي الله عنه – قال: قالوا يا رسول الله: قد شبت! قال: ” شيبتني هود وأخواتها7 وعند الترمذي: ” شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت“.

 وعن عبد الله بن الشخير بن عوف قال: رأيت رسول الله يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء”8.

 وكان إذا تغيرت الريح دخل وخرج، وعُرف ذلك في وجهه.. وكان يبكي حتى يبل ثوبه ويبل الثرى بدموعه.. وفي ذات مرة مر بإخوانه وهم حول قبر يدفنون رجلاً فبدر من بين أيديهم، ثم واجه القبر حتى بل الثرى من دموعه، وقال: “ أيْ إخواني! لمثل هذا اليوم فأعدوا9.

2. جبريل وميكائيل- عليهما السلام-:

قال رسول الله  :” مررت ليلة أُسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحِلْس البالي من خشية الله -تعالى-10.

 وعن أنس أن رسول الله قال لجبريل: “ما لي لا أرى ميكائيل يضحك؟ قال: ما ضحك ميكائيل منذ خُلقت النار11.

3. عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-:

 تركت الدموع خطين أسودين في وجهه. وقد قرأ مرة آية ففزع ومرض حتى عاده الصحابةُ شهراً. وكان عمر يخاف الله في رعيته وهذا الأمر مشهور عنه، ولقد اشتهر عمر رضي الله عنه بالعدل وقول الحق والوقوف عنده، وما ذاك إلا لما وقر في القلب من إيمان وخوف من عذاب الله.

4. الفضيل بن عياض- رحمه الله-:

قال هارون الرشيد: ما رأت عيناي مثلَ الفُضيل بن عياض، قال لي -وقد دخلت عليه-: يا أمير المؤمنين، فرِّغ قلبك للحزن والخوف حتى يسكناه، فيقطعاك عن معاصي الله، ويباعداك من عذاب النار.

وقال يحيى بن أيوب: دخلت مع زافر بن سليمان على الفضيل بن عياض بالكوفة، فإذا الفضيل وشيخ معه، قال: فدخل زافر وأقعدني على الباب. قال زافر: فجعل الفضيل ينظر إلي ثم قال: يا أبا سليمان، هؤلاء أصحاب الحديث، ليس شيء أحب إليهم من قرب الإسناد، ألا أخبرك بإسناد ولا شك فيه، عن رسول الله، عن جبريل، عن الله: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فأنا وأنت يا أبا سليمان من الناس، قال: ثم غشي عليه وعلى الشيخ، وجعل زافر ينظر إليهما. قال: ثم تحرك الفضيل، فخرج زافر وخرجت معه، والشيخ مغشي عليه.

وعن إبراهيم بن الأشعث قال:كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة، لا يزال يعظ ويذكر ويبكي؛ حتى لكأنه يودع أصحابه، ذاهب إلى الآخرة؛ حتى يبلغ المقابر فيجلس، فكأنه بين الموتى جالس، من الحزن والبكاء، حتى يقوم ولكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.

5. علي بن الفضيل… قتيل القرآن:

 قال محمد بن بشر المكي: كنا يوماً ماضين مع علي بن الفضيل، فمررنا بمجلس بني الحارث المخزومي، ومعلمٌ يعلم الصبيان، قال: ويقرأ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} فشهق ابن الفضيل شهقة خرَّ مغشياً عليه، فجاء الفضيل فقال: بأبي قتيل القرآن! ثم حمل، فحدثني بعض من حمله أن الفضيل أخبره أن علياً ابنه لم يصل ذلك اليوم الظهر ولا العصر، ولا المغرب ولا العشاء، فلما كان في جوف الليل أفاق.

وقال أبو بكر بن عياش: صليت خلف فضيل بن عياض صلاة المغرب، وإلى جانبي علي ابنه، فقرأ الفضيل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فلما بلغ: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} سقط عليٌ مغشياً عليه، وبقى الفضيل لا يقدر يجاوز الآية، ثم صلى بنا صلاة خائفٍ، قال: ثم رابطت علياً فما أفاق إلا في نصف الليل.

فوائد الخوف:

1. الفوز بالجنة والنجاة من النار.

2. يُبعد الإنسان عن الوقوع في المعاصي.

3. الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة.

4. دليل على كمال الإيمان.

5. يثمر محبة الله وطاعته.

6. يورث المسلم الشفقة على الخلق.

7. دليل على صفاء القلب وطهارة النفس.

8. سبب لهداية القلب.

9. يحمل الإنسان المسلم على التخلق بالأخلاق الحسنة وتجنب الكبر والعجب12.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليماً كثيراً.


1– للاستزادة انظر المقاييس 2/230. والصحاح 4/1358. واللسان خوف 9/99 ط/ بيروت. والقاموس 3/139 (خوف). نقلاً عن موسوعة نظرة النعيم لمجموعة من الباحثين. 

2– المفردات 161.

3– التعريفات 101.

4– التخويف من النار لابن رجب 6-7.

5– بصائر ذوي التمييز للفيروز أبادي (2/578-579) بتصرف. نقلاً عن موسوعة نظرة النعيم لمجموعة من الباحثين. 

6 – قال في الترغيب والترهيب: رواه أحمد بإسناد جيد،  والبغوي في شرح السنة.

7– صححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (955).

8 – رواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وقال: حديث صحيح وأقره الذهبي. وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (799).

9 – رواه أحمد وحسنه الألباني في صحيح الجامع.

10 – رواه الطبراني في الكبير وحسنه الألباني في صحيح الجامع.

11 – رواه أحمد وقال العراقي في تخريج الإحياء: إسناده جيد.

12 – موسوعة نظرة النعيم 5/19900 بتصرف.