قصر الصلاة

 

 

قصر الصلاة

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، الذي يسر لعباده الأحكام فلم يجعل عليهم في الدين حرجاً، والصلاة والسلام على سيد الأنام، جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن على نهجهم درجا.. أما بعد:

فقد يسر الله للمسلمين أمور دينهم، وجعل لكل حال ما يوافقه ويناسبه، ومن ذلك أن فرض الصلاة على مدار اليوم الواحد لحكم بالغة، وغايات جليلة، ولما كان الناس يحتاجون إلى الأسفار والتنقل في الأمصار، كان في إتمام الصلاة الرباعية نوع من الحرج؛ لأن الأسفار تحتاج إلى السرعة في قطع الفيافي والقفار، فكانت هذه المشقة هي الحكمة في قصر الصلاة، لهذا خفف الله على عباده بهذا الحكم الشرعي الميسر..

فأما ما يتعلق بقصر الصلاة فإن في ذلك أحكاماً، يليق بهذا المقام ذكر بعضها على وجه الإيجاز- والله المستعان-.

معنى قصر الصلاة: هو اختصار الصلاة الرباعية إلى ركعتين.

الصلاة التي تقصر: الذي يقصر إجماعاً هو الصلاة الرباعية: الظهر والعصر والعشاء.

مشروعية القصر: القصر جائز بالكتاب والسنة الإجماع، أما القرآن فقول الله -عز وجل-: {وَإِذَاضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا} (101) سورة النساء. وهو جائز سواء كان في حالة الخوف أو الأمن، لكن تعليق القصر على الخوف في الآية كان لتقرير الحالة الواقعة؛ لأن غالب أسفار النبي   لم تخلُ منه. قال يعلى بن أمية لعمر بن الخطاب: (ما لنا نقصر وقد أمِنَّا؟ فقال: سألت النبي   فقال: ((صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته))1.

وأما السنة فقد تواترت الأخبار أن رسول الله كان يقصر في أسفاره حاجاً ومعتمراً وغازياً محارباً، قال ابن عمر: (صحبت النبي   فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك)2. وقد أجمع العلماء على جواز القصر في السفر المعتبر عندهم.

حكم القصر:

أي: هل المسافر ملزم شرعاً بقصر الصلاة أم أنه مخير؟

تتردد أقوال الفقهاء المعتمدة بين آراء ثلاثة: أنه فرض، أنه سنة، أنه رخصة مخير فيها.

 فقال الحنفية: أن القصر واجب- عزيمة- واستدلوا بحديث عائشة -رضي الله عنها-: (فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر)3. وبحديث ابن عباس (فرض الله على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين،وفي الخوف ركعة)4.

وقال المالكية على الراجح عندهم: القصر سنة مؤكدة؛ لفعل النبي  ، فإنه لم يصح عنه في أسفاره أنه أتم الصلاة قط، كما في الحديث المتقدم عن ابن عمر وغيره.

وقال الشافعية والحنابلة: القصر رخصة على سبيل التخيير، فللمسافر أن يتم أو يقصر،والقصر أفضل من الإتمام مطلقاً عند الحنابلة؛ لأن رسول الله داوم عليه. ومن أدلتهم:الآية السابقة: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ)، فهذا يدل على أن القصر رخصة مخير فيه. وحديث عمر السابق: (صدقة تصدق الله بها عليكم ..) وحديث: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)5. وغيرها من الأدلة.

المسافة التي يجوز فيها القصر:

جمهور العلماء على أن مسافة السفر التي تقصر فيها الصلاة: هي مسير يومين معتدلين، أو مرحلتين بسير الجمال المحملة أو مشي الأقدام، ويقدر بالمسافة ذهاباً: بأربعةبرد، أو ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً هاشمياً، وتساوي بالكيلو 89 كيلومتر.

وذهب الأحناف إلى أن مسافة السفر التي تقصر فيها الصلاة مسيرة ثلاثة أيام ولياليهامن أقصر أيام السنة في البلاد المعتدلة، بسير الإبل ومشي الأقدام. والمعتبر هوالسير الوسط مع الاستراحات الليلية والنهارية، ولا يصح التقدير عندهم بالفراسخ.

قلت: وقد ذهب جمع من المحققين إلى أن المعتبر في تحديد مسافة السفر عرف الناس، فماعده الناس سفراً فهو سفر، وما لم يعدوه سفراً فليس بسفر، والتحديد بالأيام والفراسخ لم يأت فيه نص صريح ولا صحيح عن النبي   ولا عن أحد من أصحابه، هذا ما ذهب إليه ابن تيمية وغيره، فإنه قال- بعد أن ذكر مذاهب العلماء فيه، وبين أنه لا دليل على التقدير بالزمن أو بالمسافة-: ( وإذا كان ذلك كذلك – أي عدم الدليل على التحديد- فنقول: كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف، فما كان سفراً في عرف الناس فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم، وذلك مثل سفر أهل مكة إلى عرفة؛ فإن هذه المسافة بريد، وهذا سفر ثبت فيه جواز القصر والجمع بالسنة، والبريد هو نصف يوم بسير الإبل والأقدام..)6. وممن قال بذلك كثير من العلماء قديماً وحديثاً.

شروط القصر:

1. أن يكون السفر طويلاً على حسب العرف المتفق عليه بين الناس.

2. أن يكون السفر مباحاً غير محرم، عند الجمهور، ولم يشترطه الأحناف، بل قالوا بجواز القصر في السفر المباح والحرام.

3. مجاوزة عمران البلدة أو القرية أو المدينة التي هو فيها. وقد ذكر علماء كل مذهب شروطاً أخرى لم نذكرها ههنا..

اقتداء المسافر بالمقيم وبالعكس:

اتفق العلماء على جواز ائتمام المسافر بالمقيم والعكس. بمعنى أن يصلي المسافر خلف المقيم، فيتم المسافر صلاته مع المقيم أربعاً. أو أن يصلي المقيم خلف المسافر، فإذا صلى المسافر ركعتين وسلم قام المقيم وأتم الأربع.

وهناك مسائل أخرى تتعلق بالقصر، يمكن أن تراجع من كتب الفقه المقارنة، أو كتب المذاهب المعتمدة، ومن الكتب المقارنة: كتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) للدكتور: وهبة الزحيلي السوري -جزاه الله خيراً- فقد استفدت هذه المعلومات منه، وهو كتاب جامع لمذاهب العلماء وأدلتهم.. ومن الكتب كذلك كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) للجزيري. وكتب أخرى أضاءت المكاتب الإسلامية.. اللهم وفقنا لطاعتك، واصرف عنا معاصيك، إنك أنت العزيز الحكيم..


1– رواه مسلم.

2– متفق عليه.

3– متفق عليه.

4– رواه مسلم.

5– رواه أحمد والبيهقي عن ابن عمر، والطبراني عن ابن عباس مرفوعاً وعن ابن مسعود بنحوه موقوفاً على الأصح.

6– مجموع الفتاوى ( 24/40 – 41).