من أحكام اللبث في المسجد

من أحكام اللبث في المسجد

 

نحمد الله ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور النفس وسيئات العمل، ونسأله أن يفقهنا في الدين، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحابته الكرام والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، أما بعد:

معنى لبث: مكث، ومعناها أقام زمناً غير قليل.

 واللبث في المسجد يختلف من حيث النية وحال الماكث ذكراً كان أو أنثى، وغير ذلك، وسيكون الحديث هنا بإذن الله عن بعض مسائل اللبث في المسجد كما يلي:-

المسألة الأولى: اللبث بعد الأذان:

من الأحكام المتعلقة باللبث في المسجد حكم مؤذن المسجد، ومن كان في المسجد أثناء شروع المؤذن في أذانه.. هل له أن ينصرف من المسجد بعد أن يؤذن أم لابد من لبثه حتى يؤدي الصلاة؟… فالجواب عن هذا التساؤل كما يلي:

إذا كان المؤذن هو الذي يؤذن في مسجد مستقل وسوف يصلي فيه، فله الخروج لعذر بنية العودة، ومن سمع أذانه في المسجد فلا يحل له الخروج من المسجد إلا لعذر، ولو أن مؤذناً يؤذن في مسجدين، فله الخروج عن المسجد الأول لأن الأذان عذر.

والدليل على ذلك: ما ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّه رَأََى رَجُلًا يَجْتَازُ الْمَسْجِدَ خَارِجًا بَعْدَ الْأَذَانِ فَقَالَ أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-»1. وعلى هذا العمل عند أهل العلم ألا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر.

وأما خروجه لعذر كحضور مجلس علم أو للأذان أو للتطهر أو نحو ذلك فيجوز، ودليل ذلك ما ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَعُدِّلَتْ الصُّفُوفُ، حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ انْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ انْصَرَفَ، قَالَ: (عَلَى مَكَانِكُمْ) فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا يَنْطِفُأي: يقطر رَأْسُهُ مَاءً وَقَدْ اغْتَسَلَ»2.

وجه الدلالة:

أنه خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد، ثم انصرف منه لعذر، ثم خرج إليه مرة أخرى. وهذا يدل على جواز الخروج من المسجد بعد الأذان لعذر، ولعل الحكمة في ذلك -والله أعلم- أن من سمع النداء وجب عليه أن يجيب المنادي للصلاة، وخروجه من المسجد بعد النداء بلا عذر

مخالف للإجابة، فلهذا ورد المنع من الخروج بعد الأذان.

المسألة الثانية: اللبث في المسجد لشغل الوقت بالعبادة:

من المعلوم أن المساجد إنما بنيت لعبادة الله تعالى، واللبث في المسجد لأي نوع من أنواع العبـادة- كالصلاة وتلاوة القرآن أو الذكر أو الوعظ أو سماع العلم ونحو ذلك من عمارة المساجد بالعبادة- مرغب فيه شرعاً، ويشهد لهذا حديث أَبِي هُرَيْرَة –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَتْ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ، لَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا الصَّلَاةُ»3. هذا لفظ مسلم، وللبخاري: «الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ» وفي رواية لمسلم: «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ فِي مُصَلَّاهُ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ حَتَّى يَنْصَرِفَ أَوْ يُحْدِثَ. قُلْتُ: مَا يُحْدِثُ؟ قَالَ: يَفْسُو أَوْ يَضْرِطُ»4. ولأبي داود ومالك في الموطأ وغيرهما نحو هذه الروايات.

الشاهد: قوله: «لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه» وقوله: « الملائكة تصلي على أحدكم مادام في مصلاه ما لم يحدث»  

وجه الدلالة:

أن المنتظر للصلاة، والذاكر لله تعالى بعدها في مصلاه لا يزال في ثواب الصلاة حتى ينصرف.

وهذه الأحاديث تنص على فضل الجلوس بالمسجد قبل الصلاة لانتظارها، وبعد الصلاة للذكر ونحوه، وينبغي للمسلم أن يجلس في المسجد أوقات فراغه ليتعلم الخير ويتلو القرآن، ويحرص على الجلوس في المسجد بعد الفجر، حتى ترتفع الشمس قيد رمح، ثم يصلي ركعتين لثبوت ذلك بالسنة، ولما فيه من الفضل العظيم.

عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا»5.

أما من ليس له عمل ولا صناعة وقد ترك التكسب إما لكبره، وإما ليتفرغ للعبادة، فإن يكن غنياً

 له مال يدر عليه وعلى من تحت يده، أو قام بعمله من يكفيه من بنيه أو خدمه، فإن لبث هذا

في المسجد فيه خير عظيم له؛ لأنه يصون وقته ويحفظه بالعبادة.

وأما إن كان فقيراً، أو كان المسلمون بحاجة إلى علمه في المدارس والمجتمعات أو بحاجة إلى إدارته لبعض المصالح، فلا يحل له أن يتقاعس عن نفع المسلمين وخدمتهم؛ لأنه إن أخلص النية لله تعالى فهو قد عمل عملاً يثاب عليه، وإن ترك ذلك العمل بلا عذر فقد أساء لنفسه وللناس.

وأما إن كان يحتاج إلى قوت لا يجد من يؤمنه له، فليس له أن يسكن المسجد ويلبث فيه ليكون عالة على المؤمنين، يكتسب من صدقاتهم، اللهم إلا أن يكون عاجزاً عن التكسب فله ذلك؛ لأن الضرورة قد أجبرته على هذا.

وإن كان اللابث بالمسجد إنما يلبث من أجل بدع يفعلها، كأن يقرأ للأموات بأجرة، أو يخلو بالمسجد خلوة بدعية ينزوي فيها عن مخالطة الناس وشهود الجماعة، وليس هذا اعتكافاً، ولا يحل أن يسمى الاعتكاف خلوة، ويزعم أنه ينكشف له من علم الله ما يشفي المرضى ويغني الفقراء، وينجب الأولاد لمن كان عقيماً، ويبتز أموال الناس بأعماله فهو ضال مبتدع ينبغي ردعه.

ويدل لما ذُكر أن المساجد لم تبن للسكنى، ولا للتكسب الدنيوي، ولا للشعوذة على الناس، لقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (36) سورة النــور. وقوله -صلى الله عليه وسلم- : «إِنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ»6.  وقد ورد في رواية أخرى تفسير ما بنيت له: بأنه ذكر الله، وتلاوة القرآن، والصلاة.

المسألة الثالثة: لبث المريض:

يختلف اللابث في المسجد وهو مريض من جهة حاله ونوعية مرضه، فإن كان لا يجد من يعوله، فجلوسه في المسجد جائز ليكون محل عطف المصلين ورعايتهم ابتغاء مرضاة الله تعالى.

أما إن كان له من يعوله ويقوم بشؤونه فلا يجلس بالمسجد إلا من أجل اعتكاف أو صلاة أو قراءة أو ذكر، وإلا فإن عناية عائلته أولى به، لحاجته الشديدة إليهم.

وإن كان به مرض معد أو تخرج منه دماء ورائحة كريهة، أو يتأذى المسلمون منه لسوء المنظر أو نحوه مما يتأذى به الناس أو المسجد فإنه لا يجوز له الجلوس في المسجد، لتحقق الضرر منه، وهكذا لو خيف عليه ضرر من الروائح فإنه يعزل عن المسجد؛ لأنه إذا بقي في المسجد مع تضرره من الروائح يكون كمن ألقى بنفسه إلى التهلكة، وهذا حرام عليه وعلى من وليه.

أما المستحاضة إذا حفظت المسجد من أذاها بوسائلها الخاصة، وهكذا من به سلس بول، أو استطلاق ريح، أو بخر شديد جداً، فإن بقاءهم في المسجد حين لا يتضرر المسجد، ولا من به منهم لحفظهم أنفسهم باستعمال وسائل تمنع أذاهم عن المسجد ومن به، فإن بقاءهم حينئذ جائز  بحمد الله تعالى.

اللهم فقهنا في الدين، واهدنا لأحسن الأقوال والأفعال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين7.  

 


1 رواه مسلم -1048- (3/390).

2 رواه البخاري -603- (3/21).

3 رواه البخاري-619-(3/50) ومسلم -1062- (3/408).

4 رواه مسلم -1061- (3/407).

5 رواه مسلم -1075- (3/424).

6 رواه مسلم -882- (3/197).

7 استفيد الدرس من كتاب:(أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية) لـ:(إبراهيم بن صالح الخضيري)، – (1/189).