مخاطر الفقر

مخاطر الفقر

 

الحمد لله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على خير من ركع وسجد، وعلى آله وصحبه بلا حصر ولا عد، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المزيد.

أما بعد:

فإن للفقر مخاطر جمة، وآفات كثيرة؛ فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله منه؛ فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم)1، وكان يسأل ربه الغنى؛ فعن عبد الله-رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه كان يقول: (اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى)2. فمن مخاطر الفقر ما يلي:

1. أنه مدعاة لانتشار الفواحش بأنواعها، من زنا ولواط، وسرقة ونهب، وما أشبه ذلك؛ فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا فناء بي في طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأدرتها عن نفسها-(كناية عن طلب الجماع)- فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين-(نزلت بها سنة من سني القحط فأحوجتها)- فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أد إلي أجري فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)3. الشاهد من الحديث قوله: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأدرتها عن نفسها-(وهذا كناية عن طلب الجماع)- فامتنعت مني حتى ألمت بها سَنة من السنين-(نزلت بها سنة من سني القحط فأحوجتها)، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها. فتأمل كيف أنها وافقت على الفاحشة تحت إكراه وإجبار الفقر والحاجة التي نزلت بها، مع أنها كما يظهر من الحديث أنها امرأة عفيفة، وذلك أنها لما جلس إليها الرجل كما يجلس الرجل إلى امرأته صاحت به، قائلة له: (لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه) وفي رواية أنها قالت: (اتق الله! ولا تفض الخاتم إلا بحقه)؛ فلولا أن الله عصمهما لوقعا في كبيرة من كبائر الذنوب؛ قال الله –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} سورة الأعراف(201).

2. أن الفقر قد يؤدي بالبعض إلى الكفر، وذلك بأن يبيع دينه بالدينار والدرهم، وبيع الدنيا الفانية بالآخرة الباقية، وذلك يكون بموالاة أعداء الله، ومداهنتهم، ومعاونتهم ضد المسلمين؛ فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا)4. فلضعف إيمانه، وقلة فهمه وإدراكه، وعوزه وفقره مستعد أن يضحي بالدين على حساب الدنيا، وهذا ما نشاهده في هذه الأزمنة المتأخرة، وخاصة مع انتشار المخابرات العالمية، والتجسس على المسلمين- عياذا بالله من غضبه-. وقد روي عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كاد الفقر أن يكون كفراً، وكاد الحسد أن يغلب القدر)5. وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً، فإنه يشهد له الحديث السابق، وهو قوله: (يبيع دينه..)، فإنه مما لا شك  فيه أن من باع دينه مقابل عرض من الدنيا فإنه ممن رضي بالدنيا وقدمها على رضا الله، وبالتالي فهو  من قال الله فيهم: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} سورة يونس(7)(8).

3. قد يكون من مخاطر الفقر أحياناً أن الإنسان يصبح عبداً للدينار والدرهم، فلربما قدم الدينار والدراهم عن كل شيء؛ قد يستدل لذلك بحديث أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض)6. ينطبق عليه قول الشاعر:

أطعت مطامعي فاستعبدتني *** ولو أنِّي قنعت لكنت حرَّ7.

وهذا ما نشاهده من بعض اللصوصية أنه قد يقدم على هتك حرمة مسلم أو مسلمة، بهتك عرضهما أو أخذ مالهما، أو السطو على ممتلكاتهما، مقابل دراهم معدودة

يتقضاها من شخص أخر- والعياذ بالله-.

ومخاطر الفقر كثيرة،  وفي الأخير يجب أن ننبه إلى أن هذه المخاطر قد تكون في حق أناس دون أناس.. وكذلك لا يعني  ذكرنا لهذه المخاطر ذم الفقراء والفقراء، ولكن المقصود هو الفقير الذي يؤدي به الفقر إلى التسخط على أقدار الله، وارتكاب معاصيه، والتعدي على حرماته، وترك ما أوجل الله عليه، ونسيان نعم الله، وكفرانها، وما أشبه ذلك؛ ولذلك فإننا نجد العلماء أنهم يفسرون معنى قوله-صلى الله عليه وسلم-: (اللهم إني أعوذ بك من الفقر) أي أعوذ بك من قلب حريص على جمع المال، أو من الذي يفضي بصاحبه إلى كفران النعمة في المال، ونسيان ذكر المنعم المتعال. قال الطيبي: أراد فقر النفس، أعني الشره الذي يقابل غنى النفس الذي هو قناعتها.. والمراد بهذه الأدعية تعليم الأمة8. وأما الفقر الذي هو بمعنى الزهد في هذه الدنيا الفانية، مع حب الله وتعظيمه، والرضا بقضائه وقدره، فإن ذلك مطلوب شرعاً، وقد جاء في فضل ذلك نصوص كثيرة جداً. اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.  اللهم أغننا بالعلم، وزينا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجملنا بالعافية. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.


1 – رواه أبو داود، والنسائي، وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم (1366).

2 – رواه مسلم، والترمذي وابن ماجه.

3 – رواه البخاري ومسلم.

4 – رواه مسلم.

5 – أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وأبو نعيم في الحلية، والقضاعي في مسند الشهاب،

6 – رواه البخاري.

7 – انظر البيت الشعري في البداية والنهاية لابن كثير(11/142) الناشر: مكتبة المعارف – بيروت.

8 – عون المعبود شرح سنن أبي داود(4/282) لمحمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب. الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت. الطبعة الثانية(1415هـ).