النقد الهدام

 

 

النقد الهدام مظاهره-أسابه-علاجه

النقد من طبيعة النفس البشرية، فهي مجبولة على رفض ما تراه مخالفاً لما يناسبهاويناسب هواها، ومن كمال قدرة الله -سبحانه- أن جعل الخلاف بين البشر قائماً إلى قيام الساعة.. وإذا اختلفت النفوس فلا بد من نقد بعضها بعضاً، وهذا النقد منه ما ينفع ومنه ما يضر، فالنقد النافع هو الذي يراد منه تصحيح الخطأ، وتعديل المسار حتى يعود إلى مكانه الصحيح، وهو ما يعبر عنه بالنقد البناء، والنقد الضار هو ما كان لمجرد النقد والتشفي وحب النقد ذاته لا غير، وليس من ورائه أي مصلحة، بل فيه من المفاسد الشيء الكثير، وهو ما يعبر عنه بالنقد الهدام، وحديثنا في هذا الموضوع سيكون عن النقد الهدام: مظاهره، أسبابه، علاجه.

مظاهر النقد الهدام:

1- الجرح في شخصية من يوجه إليه النقد: كوصف بعض الدعاة بالميوعة أو عدم القدرة على نطق بعض الحروف العربية؛ أو أن بضاعته في العلم مزجاة.

2- الجرح بلا دليل: فيتعرض بعضهم لجرح الآخرين من غير حجة ولا برهان ؛ وإنما للتشفي، وليصبح النقد مهنة لذلك المنتقد في نقد المخالفين.

3- الاعتماد في النقد على حجة واهية:

 إما لعدم التثبت، أو لعدم عدالة الناقل، أو لأنه يَهِمُ في خبره، أو تحميل الكلام ما لا يحتمل؛ وهذا ملحوظ، والله المستعان.

4- تتبع العثرات، وعدم الموازنة بين هفوة المنتقَد وفضائله الكثيرة، بل وغَمْر تلك الفضائل العظيمة من أجل زلة وقع بها.

5- الطعن في النيات والمقاصد: بدعوى أن مقصد ذلك المنتقَد خبيث، والحكم عليه في نيته بالظن؛ وهذا مسلك خطير، فمعرفة ما في السرائر موكول إلى الله -سبحانه وتعالى-.

6- التندر على الدعاة في المجالس، واستغلال أي فرصة للغمز والطعن بحجة بيان الحق وتعرية الباطل وأهله؛ وهذا خُلق ذميم.

7- التهويل في نقد بعض العلماء أو الدعاة، ورميهم بالكذب أو البدعة، أو أنهم أخطر من اليهود والنصارى.

أسباب النقد الهدام:

1- الغيرة: الغَيْرةُ بالفتح محمودة من أجل دين الله وحرماته، لكنها قد تجر صاحبها-إن لم يتحرز- شيئاً فشيئاً حتى يقع في لحوم العلماء والدعاة من حيث لا يشعر. وأما الغِيرَة بالكسر فهي مذمومة وهي قرينة الحسد والمقصود بها: كلام العلماء بعضهم في بعض1.

2- الحسد: وهو يعمي ويصم؛ ومنه التنافس للحصول على جاه أو مال أو القرب من شيخ، فقد يبغي على إخوانه بسبب ذلك.

3- الهوى: هو كل ما خالف الحق، وللنفس فيه حظ ورغبة من الأقوال والأفعال والمقاصد2.

وكان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه،   وصاحب دنيا أعمته دنياه.3

4- التقليد والتعصب: (قد يوجد رجل ينقد آخر لا بناءً على علم أو فهم أو دليل، بل مجرد تقليد أعمى: سمع فلاناً ينقده أو ينتقصه أو يذمه فسار على أثره بغير هدى ولا برهان).4

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: (ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً: إن آمَن آمن، وإن كَفر كفر؛ فإنه لا أسوة في الشر).5

5- التعالم: لقد كثر المتعالمون في عصرنا، وأصبحت تجد شاباً حدثاً يتصدر لنقد العلماء وتفنيد آرائهم وتقويم قولهم، وهذا أمر خطير؛ فإن من أجهل الناس من يجهل قدر نفسه ويتعدى حدوده).6

6- النفاق وكُرْهُ الحق: إن دسائس المنافقين والكارهين للحق من العلمانيين بشتى اتجاهاتهم من أقوى أسباب النقد.

فالذين يتبعون أعداء الدعوة من حيث يشعرون أو لا يشعرون سيكونون فريسة سهلة فيما بعدُ لهم، فإنهم قد أعانوا الأعداء على إخوانهم؛ وهل سيتركهم الأعداء؟ لن يتركوهم كما هو ملموس في الواقع.

7- سوء الظن: وهو حمل التصرفات قولاً وفعلاً على محامل السوء والشكوك وسوء الظن7.

8- بُعد الأمة عن علمائها: (إن تصنيف العالم الداعية وهو من أهل السنة ورميه بالنقائص: ناقض من نواقض الدعوة وإسهام في تقويضها، ونكث الثقة، وصرف الناس عن الخير، وبذلك ينفتح السبيل للزائغين)8 فضلاً عما في ذلك من السعي في الأرض بالفساد؛ لأنه يوقع الشحناء والبغضاء في صفوف الدعوة الإسلامية، ويعمل على تأخر النصر والتمكين للأمة.

9- ضياع الأوقات، وإهدار الجهود والطاقات والقدرات في غير فائدة تعود على الإسلام والمسلمين.

علاج النقد الهدام:

يمكن علاج هذه النزعة التي يحاول بعضهم إثارتها وادعاء التعالم بواسطتها بانتشار الأخلاق الإسلامية في نفوس أهل هذه الفئة، ومن ذلك:

1- تذكر الخوف من الله، وضرورة حفظ اللسان: عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: (الربا اثنان وسبعون باباً، أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه)9.

2- التجرد في النقد: وعدم الغيرة والحسد والهوى وسوء الظن، فالغيرة تهلك صاحبها وتجعله في همّ وغم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: (…لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا).10

وأما الهوى فيضل الإنسان عن الحق وإن كان يعرف ذلك، فإذا صار الهوى هو القائد والدافع صار أصحابه شيعاً يتعصب كل واحد لرأيه، ويعادي من خالفه، ولو كان الحق معه واضحاً؛ لأن الحق ليس مطلوبه).11

والأصل في المسلم حسن الظن به، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا) الحجرات: 12.  

وفي حادثة الإفك دروس ينبغي لكل مسلم أن يعيها فقوله -تعالى-: (لَوْلاإذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُّبِينٌ) النور: 12. فكما أنه يحسن الظن بنفسه فعليه أن يحسن الظن بإخوانه.

ثم وعظنا الله -تعالى- بقوله: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) النور: 17. وفي هذا تحذير أي تحذير لمن يفقه ذلك، والله المستعان.

3- لا بد من الموازنة بين فضائل المنتقَد ومساوئه والحكم على الغالب: وهذا هدي النبي  ، ففي يوم بدر عندما رأى عتبة بن ربيعة بين المشركين على جمل أحمر قال: (إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا).12

وقال في أسارى بدر: (لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء لتركتهم له)13، فيظهر من هذا أن النبي  كان يذكر محاسن المشركين من باب الإنصاف وقول الحق.

وهذا هدي السلف الصالح من بعده.. قال سعيد بن المسيب: ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب؛ ولكن إن كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله؛ كما أن من غلب عليه نقصانه ذهب فضله).14

وقال ابن القيم: (فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرِكَ جملةً، وأُهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها)15.

وقال الذهبي: (ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدّعناه لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه)16.

(وهذا الكلام في الموازنة بين الحسنات والسيئات إنما هو في الحكم على الأشخاص)17 وكذلك الهيئات والجماعات.

أما في تصحيح الأخطاء أو ذكر الأمور الحسنة العظيمة والموافقة في الحق:

فإذا كنت في مقام رد خطأ عالم من العلماء فلا يلزم ذكر الحسنات، وعلى هذا فإذا بينت خطأ إمام فقلت: أخطأ في الأمر الفلاني كفاك ذلك.

وإذا كان بعض أهل البدع يجيدون فناً معيناً كعلم البلاغة أو النحو أو الصرف أو المواريث فأثنيت عليه وذلك في مقام ذكر أي فن، كأن تثني على الزمخشري بأنه بارع في علم البلاغة فلا بأس.

هذا إذا أمنت الفتنة على السامع، أما إذا كان السامع سيفهم الكلام على غير وجهه ويظنه حكماً مطلقاً فلا بد من البيان.18

4- عدم رواية كلام الأقران: فقد قعّد السلف قاعدة عظيمة هي: (كلام الأقران يطوى ولا يروى). وقد ورد معناها عن السلف، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: (خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض؛ فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة). يقول الذهبي: (كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصراً من العصور سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس)19-أي كتباً كثيرة-.

5- الشعور بالولاء لمن تنتقده إذا كان في دائرة الإسلام: عندما نوجه أي انتقاد لأي داعية أو عالم لبيان الخطأ أو الزلة التي وقع فيها فعلينا ألا نُفرِطَ في الأمر حتى يصبح الكلام فيه حديث المجالس، وكذلك لا نبغضه بغضاً أشد من أعداء الإسلام المعادين له؛ لأن أصل أن الولاء ما زال بيننا وبينه، قال ابن تيمية: (ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه؛ وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة).

6- الاشتغال بأخطائنا عن الآخرين:

يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً إن عبت منهم أموراً أنت تأتيها
 وأعظم الإثم بعد الشرك نعلمـه في كل نفس عماها عن مساويها
عرفتها بعيوب الناس تبصــرها    منهم ولا تبصر العيب الذي فيه20

7- عدم التهويل في الأمور الخلافية التي يسوغ فيها الاجتهاد:

فقد تكون الأمور التي ينتقد عليها بعض الدعاة أو العلماء أمور اجتهادية يسوغ فيها الخلاف، وقد يكون الخلاف فيها قد حصل عند السلف فيأتي بعضهم مُهوّلاً أن فلاناً قدخالف في المسألة الفلانية، وأن هذا خلل في المنهج وانحراف عنه؛ وليس الأمر كذلك؛ فلا ينبغي أن تجرنا الخصومة إلى هذا الحد؛ بل لا بد من الترفق بإخواننا؛ فإن المخالفة تسوغ في الفروع وفي الأمور الظنية.

8- الأدب مع العلماء، والرجوع إليهم، ووضع الثقة فيهم:

فالكثير من العلماء يثنون على شخص أو هيئة أو جماعة لما علموا من حالهم فترى هؤلاء الجراحين لا يقبلون منهم ذلك، ويقبلون ممن هم أقل منهم علماً ودراية؛ فلا بد من التأدب مع العلماء في كل الأحوال مع احترام آرائهم والثقة في علمهم.

عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول  : (إن من إجلال الله -تعالى- إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)21. يقول طاووس بن كيسان: (من السنة أن يوقر العالم).

نصيحة عامة لمن ابتلي بالجرَّاحين:

استمسكْ بما أنت عليه من الحق المبين، من أنوار الوحيين الشريفين، وسلوك جادة السلف الصالحين، ولا يثيرنك تهييج المرجفين، وتباين أقوالهم فيك فتزل عن وقارك، فتضل.

لا تبتئس بما يقولون، ولا تحزن لما يفعلون، وخذ بوصية الله -سبحانه- لعبده ونبيه نوح -عليه السلام-: (وَأُوحِيَ إلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (هود : 36). ولا يثنينك هذا(الإرجاف) عن موقفك الحق، وأنت داع إلى الله على بصيرة؛ فالثباتَ الثباتَ متوكلاً على مولاك؛ والله يتولى الصالحين. ليكن في سيرتك وسريرتك من النقاء والصفاء والشفقة على الخلق ما يحملك على استيعاب الآخرين، وكظم الغيظ، والإعراض عن عرض من وقع فيك،ولا تشغل نفسك بذكره، واحتسب ذلك عند الله. وأنت بهذا كأنما تسفّ الظالم المَلّ22؛

والأمور مرهونة بحقائها، (فَأَمَّا الزَّبَدُفَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)(الرعد:17).

ونكتفي بهذا القدر من الكلام على النقد الهدام، ونحن لم نأت بجديد، وإنما أصل هذاالموضوع محاضرة للشيخ مراد بن أحمد القدسي اليماني، وقد نشر هذا الموضوع في مجلة البيان.. وقد نقلناه للفائدة، مع التصرف في النقل، وذلك بالاختصار والزيادة النادرة، وتخريج وتحقيق كثير من الأحاديث.. والله الموفق لما يحبه ويرضاه.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1– لحوم العلماء مسمومة (د. ناصر العمر).

2– الهوى وأثره في الخلاف للشيخ عبد الله الفتيمان ص 12.

3– لحوم العلماء مسمومة ص 21.

4– النقد وأدبه ص 99.

5– النقد وأدبه ص 100 .

6– لحوم العلماء مسمومة ص 24 .

7– تصنيف الناس ص 32 .

8– المصدر السابق ص 79.

9– رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة للألباني رقم الحديث 1871 .

10– رواه البخاري ومسلم.

11– الهوى وأثره في الخلاف ص 23 .

12– رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده رقم (951).

13– رواه البخاري وأبو داود وأحمد.

14– حقيقة البدعة وأحكامها للشيخ سعيد الغامدي 2/359 .

15– مدارج السالكين لابن القيم 2/39 .

16– سير أعلام النبلاء للذهبي عند ترجمة ابن خزيمة 14/374 .

17– قواعد التعامل مع العلماء ص 138 .

18– المصدر السابق.

19– منهج أهل السنة في النقد ص 61 .

20– منهج أهل السنة في النقد ص 61 .

21– رواه أبو داود برقم (4843)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم(4053).

22– تسف الظالم المل: المل هو الرماد الحار، ومعنى ذلك: تطعم الظالم الرماد الحار. وقد جاء هذا في حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعون، وأحسن إليهم ويسيئون، وأحلم ويجهلون، قال: (إن كان كما تقول فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك) رواه مسلم وغيره. ومعنى هذا أن المحسن إلى الناس والقرابات إذا قابلوا ذلك الإحسان بالإساءة فكأن المحسن بإحسانه يطعمهم الرماد الحار كناية عن قبح ردهم الجميل، وأن الهدية من المأكل والمشرب الذي يقدمه للناس ثم يذمونه كأنما يحرق بطونهم؛ لأنهم قوم سوء. وقيل غير ذلك. للمزيد انظر شرح النووي على صحيح مسلم عند حديث رقم (2558).