الحوار

الحــوار

الخطبة الأولى

إن الحمد نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أيها المسلمون: خلق الله تعالى الناس ليتعارفوا، وزودهم بكل ما يمكنهم من هذا التعارف: مقدرة على التعبير اللغوي باللسان، ومقدرة على التعبير بالإشارة، ومقدرة على التعبير بالحال. وجعل التعبير باللسان نفسه يخدم أغراضًا متنوعة، وجعل الحوار واحدًا من هذه الأغراض إلى جانب أغراض أخرى مثل الدعوة والمجادلة والبلاغ وغيرها. ثم إن الله سبحانه وتعالى رزق الناس وسائل يوصلون بها رسائلهم إلى الآخرين، وسائل ظلت تتطور على مر العصور، حتى وصلت إلى هذا المستوى الهائل الذي نراه في عصرنا: وسائل مواصلات واتصالات تقرب الزمان والمكان، وتجعل الناس على تباعد أراضيهم يتخاطبون كأنهم في مجلس واحد يرى بعضهم بعضًا ويسمع بعضهم بعضًا.

فالحوار إذن من لوازم البشرية؛ إنه أمر يتعاطاه الناس في حياتهم اليومية حين يتحدثون وحين يكتبون؛ بل هنالك حوار داخلي بين المرء ونفسه، وحوار بين الإنسان وشيطانه.

لكن الحوار الذي نريد الحديث عنه هنا هو حوار خاص، حوار يتعلق بديننا الإسلامي: هل نحاور؟ ولماذا نحاور؟ ومن نحاور؟ وكيف نحاور؟

أيها المسلمون: نحن مأمورون بالدعوة إلى الله تعالى، والدعوة إليه بأحسن قول يتفوه به لسان : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(34) سورة فصلت.

والحوار من لوازم الدعوة. تبلغ إنسانًا كلام الله تعالى، فيرجع إليك بكلام يستفسر عما قلت، أو يستشكله، أو يعترض عليه، فترد عليه بكلام تشرح فيه ما قلت، أو تبينه وتزيل ما أثار في ذهن مستمعك من إشكال، وتبين الدليل على صدقه لتزيل الاعتراض وهكذا. فنحن إذن نحاور لأننا ندعو، ولأن واجب الدعوة لا يتم أحيانًا إلا بالحوار. مخطئ إذن من يظن أن البلاغ إنما يكون بمجرد إسماع الآخر ما تقول، لأن ذلك السامع قد لا يفهم ما تقول حق فهمه، فلا يكون كلامك بينًا بالنسبة له، وأنت مكلف بما كلف الله به الأنبياء، أن يكون بلاغك مبيناً. فلا بد إذن من مجهود فوق مجرد إسماع الآخر كلمات من كتاب الله أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

ونحن نعيش الآن في عصر يدعونا فيه الآخرون إلى مناهج حياتهم وقيمهم وأفكارهم وأنماط سلوكهم، ودعوتهم تصلنا شئنا أم أبينا. فماذا نفعل حيالها ؟ ولا سيما إذا كان أولئك الدعاة يتحدوننا بأن نرد عليهم أو نبين فضل منهجنا على منهجهم؟!!

إن الاستجابة لهذا التحدي أمر لا يتم واجب البلاغ إلا به، وقد استجاب كثير من علماء المسلمين ومثقفيه لهذا التحدي وأبلوا في الدفاع عن دينهم بلاءً حسنًا جزاهم الله خيرًا.

أيها المسلمون: إن في عالمنا الآن ثقافات ومعتقدات مختلفة حتى داخل القطر الواحد، وفيه من أسلحة الدمار ما يكفي للقضاء على كل عمران على وجه الكرة الأرضية، فماذا يفعل هؤلاء المختلفون؟ إن لجئوا إلى الحروب كان الجميع خاسرين!، لا بد إذن من اتخاذ الوسائل السلمية طريقًا للتعايش وتقليل الخلافات، ونحن بوصفنا مسلمين نرى أن الطريق السلمي هو الطريق الذي دعت إليه الأنبياء أقوامها، وأنهم لم يلجئوا إلى الحروب إلا مضطرين. فهذا نبي الله شعيب يقول لقومه عندما خيروه بين الرجوع عن دينه أو النفي:{وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وطائفة لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (87) سورة الأعراف.

وهذا نبينا محمد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول لقومه من قريش وهو يدعوهم إلى الصلح: (إنا لم نجئ لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا إلا القتال فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره)1.

فنحن كذلك نقول للناس في عصرنا، لمن تختلف أديانهم وسائر معتقداتهم عن ديننا، تعالوا فلنتحاور بالطرق السلمية، فإن حربًا عالمية بين الحضارات أو الثقافات في ظروفنا هذه أمر لا يدعو إليه أو يشجعه عاقل.

تعالوا فلنتحاور وليعرض كل منا ما عنده، ولنترك الأمر للناس ليختاروا ما شاؤوا. ونحن ندعو إلى الحوار بالطرق السلمية لأنه أدعى لأن يرى الناس الحقيقة كما هي فيقبلوها عن اقتناع. لقد وصف الله سبحانه وتعالى صلح الحديبية بالفتح المبين، وقد تعجب كثير من أكابر الصحابة من هذا حتى ظهرت لهم آثار ذلك الصلح في دخول الناس في دين الله، قال الإمام ابن كثير معللًا هذا الوصف: فإنه حصل بسببه خير جزيل، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان2.

وقال ابن هشام في سيرته: يقول الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه إنما كان القتال حيث التقى الناس فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وآمن الناس بعضهم بعضًا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر3.

ثم قال ابن هشام مؤيدًا قول الزهري: والدليل على قول الزهري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى الحديببة في ألف وأربع مئة في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف4.

 

قال تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(64) سورة آل عمران. اللهم اهدنا لخير الأعمال وأحسنها لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت، ونستغفر الله العظيم ونتوب إليه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:

أيها المسلمون: ثمة أمور ينبغي للمسلم أن يلتزم بها في حواره مع الآخرين، فلما كان الغرض من الحوار هو الدعوة إلى الحق ، ولما كان الإنسان لا يؤمن بالحق إلا إذا تبين له كان من واجب الداعية أن يكون كلامه بينًا وهذا يقتضي مخاطبة الناس باللغة التي يفهمونها: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) (إبراهيم:4).

ويدخل في هذا كما ذكر بعض العلماء مخاطبتهم بمصطلحاتهم إن كانت لهم مصطلحات خاصة بهم ، فالناس يجب أن يحدثوا بما يعقلون.

ومن الأمور التي ينبغي للمسلم أن يلتزم بها في حواره مع الآخرين: الاعتراف بما عند الخصم من حق أو خير؛ لأن هذا من العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، ولأنه مما قد يساعد على استمالة قلب الخصم، فهو من باب الدفع بالتي هي أحسن. لكن هذا أمر صعب على النفوس، بل إن النفس تميل إلى تحقير الخصم تحقيرًا يصل إلى حد الافتراء عليه. فما دام كافرًا فيجب أن يكون بليدًا، وأن يكون كسولًا، وأن يكون عيياً. وكل هذه أمور لا تعلق لها بالكفر كما أن جمال الخلقة وقوة الجسم لا علاقة لها به. ألم يقل الله تعالى عن بعض المنافقين:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}(المنافقون:4).

ومن الاعتراف بالحق أن لا يُنسَب إلى أحد اعتقاد ينكره أو ينفيه عن نفسه ، بل يتحاور معه ويجادل بحسب اعتقاده الذي يصرح به، ولا يعزى إليه قول يلزم عن مذهبه ، وإنما تستعمل اللوازم لنقد المذهب، من ذلك مثلًا أن في الغرب اليوم طوائف تنتسب إلى النصرانية لكن لبعضها كتاب غير الذي عند سائر النصارى، بل إن بعضها لا يؤمن بأن عيسى ابن الله ، وبعضها ينكر أن يكون كل ما في ما يسمى بالكتاب المقدس كلام الله، بل يعتقدون أن فيه أباطيل لا يمكن أن تنسب إلى الله تعالى، فلا يعامل هؤلاء ويحاورون كما يحاور من اعتقد أن عيسى ابن الله!!

وإذا كان بعض الغربيين يعلنون استعدادهم للحوار، فما كلهم يفعل ذلك، بل إن منهم أقوامًا هم من كبار مفكريهم يعتقدون أن حوار المرء مع غير أهل حضارته أمر متعذر من حيث المبدأ لأنهم لا يؤمنون بوجود موازين عقلية أو قيم مشتركة بين البشر، بل يعتقدون أن كل هذا تابع لحضارة كل قوم ومستمد منها، فهل نيأس من محاورة هؤلاء؟ كلا، بل لا بد أن نسعى لإقناعهم بأهمية الحوار، وخطأ ما يعتقدون.

ومن الأمور التي ينبغي للمسلم أن يلتزم بها في حواره مع الآخرين: استعمال الحجج العقلية والعلمية المناسبة؛ وذلك لأن الله تعالى جعل العقل جزءًا من الدين الحق، وهو جسر يربط المسلم بالعقلاء من غير المسلمين ما داموا يسلمون بما يسلم به كل عاقل. فمن ذلك أن تبين له أن في ما يعتقد تناقضًا، أو أنه ينتج عنه نتائج باطلة لا يسلم هو نفسه بها، وفي كتاب الله تعالى أمثلة كثيرة على ذلك منها أن نسبة الولد إلى الله تعالى تتناقض مع القول بأنه خالق لأن الوالد يلد ولده ولا يخلقه، ولأن الولد صفة نقص والله هو الغني:{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ}(68) سورة يونس. ومنها أنه تتناقض مع الإيمان بأن الخالق لا صاحبة له:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}(101) سورة الأنعام.

وكما تستعمل الحجج العقلية فكذلك تستعمل الحجج الخُلُقية ؛ لأن الإيمان بأصول الأخلاق من حسن الصدق وشكر المنعم والوفاء بالعهد من الأمور التي فطر الله الناس عليها . فمن ذلك قوله تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(44)سورة البقرة5.

أيها المسلمون: إن الحوار وسيلة عظيمة للتخاطب والتفاهم مع الآخرين وخصوصاً من يخالفوننا في الرأي أو المعتقد، فلنولي هذه الوسيلة حقها من الاهتمام والعناية والمزيد من البحث والاطلاع، فمن أتقن هذه الوسيلة استطاع أن يحرز بها أعظم المكاسب، أسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يرينا الحق حقاً وأن يرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 صحيح البخاري – (ج 9 / ص 256)

2  تفسير ابن كثير 4/233

3 سيرة ابن هشام 4/290

4 المرجع السابق.

5 المرجع: آداب الحوار وقواعد الاختلاف المؤلف: عمر بن عبد الله كامل بتصرف.