الإسراف في الأكل والشرب في رمضان

الإسراف في الأكل والشرب في رمضان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

فإن الغذاء في اعتبار الإسلام وسيلة لا غاية، فهو وسيلة ضرورية لا بد منها لحياة الإنسان، دعا إليها القرآن يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ1، وجعل الله في الإنسان ميلاً للطعام، وقضت حكمته أن يرافق هذا الميل لذة ليتمتع الإنسان بطعامه، والأصل في الأغذية أنها لبناء الجسم، وتعويض ما يندثر من أنسجته، وتقديم القدرة الكافية في الحفاظ على حرارته.

ومعلوم أن شهر الصيام والقيام والقرآن هو فرصة لتجنب الشهوات، إلا أننا قد درجنا على تحويل رمضان إلى شهر أكل ما لذّ وطاب، نستهلك خلاله أضعاف ما نستهلكه في الشهور الأخرى، فنبدأ بالاستعداد له من بدايات شهر رجب، وتقوم معظم الدول الإسلامية باستيراد أطنان اللحوم، والمواد الغذائية، كما تتصاعد الحملة المسعورة تدفع الناس دفعًا للإسراف في شراء الطعام والشراب؛ حتى تصل الحملة إلى ذروتها في نهاية شعبان، ويصبح رب الأسرة تحت ضغط نفسي عنيف؛ إذ كيف يتقاعس عن توفير كل هذه الملذات لأفراد الأسرة؟‏ وبالتالي يندفع الجميع إلى طريق الأكل والشرب بلا هوادة، ولا وعي،‏ حتى  أصبح رمضان هو هذه الأشياء.

والمعلوم أن الاعتدال في أمر الطعام والشراب هو المقصد الذي ذهبت الآية الكريمة: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ2، ففي هذه الآية دعوة للإنسان إلى الطعام والشرب، ثم يأتي التحذير مباشرة من الإفراط في ذلك قال ابن عباس: “أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة”3، قال ابن العربي: “والإسراف هو مجاوزة حد الاستواء، فتارة يكون بمجاوزة الحلال إلى الحرام، وتارة يكون بمجاوزة الحد في الإنفاق، فيكون ممن قال الله – تعالى -: إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوٰنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ4، وقد يكون الإسراف في الأكل أن يأكل فوق الشبع حتى يؤديه إلى الضرر، فذلك محرم أيضاً”5.

وقال القرطبي: “قوله – تعالى -: وَلاَ تُسْرِفُواْ أي في كثرة الأكل، وعنه يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبّط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير، فإن تعدّى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام بالواجب عليه حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه، ومشربه”6. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله  : كلوا واشربوا، وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف، ولا مخيلة7.

قال المناوي: “وهذا الخير جامع لفضائل تدبير المرء نفسه، والإسراف يضر بالجسد والمعيشة، والخيلاء تضر بالنفس حيث تكسبها العجب، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس، وبالآخرة حيث تكسب الإثم”8.

وعن المقدام بن معدي كرب  قال: سمعت رسول الله  يقول: ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه9، قال ابن رجب: “وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها… قال الحارث (الطبيب): “الذي قتل البرِيَّة، وأهلك السباع في البرِّيَة؛ إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام”.

وأما منافع تقليل الطعام بالنسبة إلى القلب وصلاحه فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب، وقوة الفهم، وانكسار النفس، وضعف الهوى والغضب، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك”10.

وقال المباركفوري: “جعل البطن أولاً وعاءً كالأوعية التي تتخذ ظروفاً لحوائج البيت توهيناً لشأنه، ثم جعله شر الأوعية؛ لأنها استعملت فيما هي له، والبطن خلق لأن يتقوّم به الصلب بالطعام، وامتلاؤه يفضي إلى الفساد في الدين والدنيا، فيكون شراً منها”11.

وقال محمد بن واسع: “من قلّ طعامه فهم وأفهم، وصفا ورقَّ، وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد”12، وقال عمرو بن قيس: “إياكم والبطنة فإنها تقسِّي القلب”13، وسئل ابن عثيمين عن الإفراط في إعداد الأطعمة للإفطار هل يقلّل من ثواب الصوم؟ فأجاب: “لا يقلل من ثواب الصيام، والفعل المحرم بعد انتهاء الصوم لا يقلل من ثوابه، ولكن ذلك يدخل في قوله – تعالى -: وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ فالإسراف نفسه محظور، والاقتصاد نصف المعيشة، وإذا كان لديهم فضل فليتصدقوا به فإنه أفضل”14.

والحمد لله رب العالمين.


1 سورة البقرة (168).

2 سورة الأعراف (31).

3 رواه الطبري في جامع البيان (12 /394).

4 الإسراء (27).

5– أحكام القرآن (4 /207).

6– الجامع لأحكام القرآن (7 /194).

7– علّقه البخاري في أول كتاب اللباس (5 /2181)، ووصله الإمام أحمد (2 /181)، والنسائي في كتاب الزكاة، باب الاختيال في الصدقة (2558)، والحاكم في المستدرك كتاب الأطعمة (4 /125)، وقال: “هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه”.

8 فيض القدير (5 /46).

9رواه الترمذي في كتاب الزهد باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل (2380)، وقال: “حسن صحيح”، وابن ماجه في كتاب الأطعمة باب الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع (3349).

10 جامع العلوم والحكم (2 /468).

11 تحفة الأحوذي (7 /51).

12 رواه أبو نعيم في الحلية (2 /351).

13– رواه أبو نعيم في الحلية (7 /36).

14– فقه العبادات (ص252) جمع عبد الله الطيار.