الغرباء

الغرباء

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، أما بعد: الرئيس يقول هكذا:

أيها الإخوة: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء).1

وعن سهل بن سعد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: (الذين يَصلُحون إذا فسد الناس)2 وروي بزيادة بلفظ: (قيل ومن الغرباء؟ قال: (النُّزاع من القبائل).3

كما روى عبد الله بن المبارك في كتابه الزهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طوبى للغرباء)، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: (ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).4

ففي الحديث الأول بيان مبدأ الإسلام، وأنه بدأ غريباً بين الأديان، وكان أهله غرباء بين الناس، وكان المستجيب له غريباً بين أهله وعشيرته، يؤذى بسبب ذلك ويفتن في دينه، ويعادى على ذلك، وكان المسلمون صابرين راضين بقضاء الله مطيعين لأوامر رسوله حتى قوي الإسلام، واشتد عوده في المدينة فزالت غربته عندما انتشر في أرض العرب، وكان أهله هم الظاهرين على من ناوأهم.

 وسيعود الإسلام غريباً كما بدأ -كما هو حال زماننا هذا- لقلة المتمسكين به، وهذه الغربة تزداد شيئاً فشيئاً بسبب دخول فتنة الشبهات والشهوات على الناس.

أما فتنة الشبهات فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.5

وأما فتنة الشهوات فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك حيث قال: (والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم).6

فمن تحقق فيهم وصف النبي صلى الله عليه وسلم فهم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جداً سُمُّوا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات. فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع منهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين.

غريبٌ يقاسي الهمَّ في أرض غربةٍ *** فياربِّ قرِّب دار كلِّ غريب7

 

ولو نظرنا في كتب السلف لوجدناها تمدح السنة وأهلها، وتصفهم بالغرباء.

 قال الأوزاعي: أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة، ترفقوا يرحمكم الله فإنكم من أقل الناس.

 وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: إني أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه الإسلام غريباً كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريباً كما بدأ، إن ترغب إلى عالم وجدته مفتوناً بحب الدنيا، يحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلاً في عبادته مخدوعاً صريعاً غرره إبليس، قد صعد به إلى أعلى درجة العبادة، وهو جاهل بأدناها، فكيف له بأعلاها، وسائر ذلك من الرعاع، همج عوج، وذئاب مختلسة، وسباع ضارية، وثعالب ضوار.

والغريب كما وصفه الآجري: لو تشاهده في الخلوات يبكي بحرقة ويئن بزفرة، ودموعه تسيل بعبرة، فلو رأيته وأنت لا تعرفه لظننت أنه ثكلى قد أصيب بمحبوبه وليس كما ظننت، إنما هو خائف على دينه أن يصاب به، لا يبالي بذهاب دنياه إذا سلم له دينه، قد جعل رأس ماله دينه يخاف عليه الخسران.

ونختم حديثنا عن الغرباء بقول محمد بن الحسين الآجري رحمه الله: من أحب أن يبلغ مراتب الغرباء فليصبر على جفاء أبويه وزوجته وإخوانه وقرابته. فإن قال قائل:

فلِمَ يجفوني وأنا لهم حبيب وغمهم لفقدي إياهم إياي شديد؟ قيل: لأنك خالفتهم على ما هم عليه من حبهم الدنيا وشدة حرصهم عليها، ولتمكن الشهوات من قلوبهم ما يبالون ما نقص من دينك ودينهم إذا سلمت لهم بك دنياهم، فإن تابعتهم على ذلك كنت الحبيب القريب، وإن خالفتهم وسلكت طريق أهل الآخرة باستعمالك الحق جفا عليهم أمرك، فالأبوان متبرمان بفعالك، والزوجة بك متضجرة فهي تحب فراقك، والإخوان والقرابة قد زهدوا في لقائك. فأنت بينهم مكروب محزون، فحينئذ نظرت إلى نفسك بعين الغربة فأنست بمن شاكلك من الغرباء، واستوحشت من الإخوان والأقرباء، فسلكت الطريق إلى الله الكريم وحدك، فإن صبرت على خشونة الطريق أياماً يسيرة واحتملت الذل والمداراة مدة قصيرة، وزهدت في هذه الدار الحقيرة أعقبك الصبر أن ورد بك إلى دار العافية، أرضها طيبة ورياضها خضرة، وأشجارها مثمرة، وأنهارها عذبة.8

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الغرباء الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم، ونسأله أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يرفع راية الدين إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه الترمذي (2629)انظر صحيح الجامع الصغير، رقم 1576.

2 رواه أحمد (16736) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 1273.

3 رواه ابن ماجه (3988) وقد توقف الألباني في تصحيحه وتضعيفه انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم1273.

4 رواه أحمد في المسند (6650) وهو صحيح، كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، رقم1619.

5 رواه ابن ماجه (3993) انظر رواياته في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 204، 205.

6 رواه البخاري (3791) ومسلم (2961)وغيرهما.

7 بهجة المجالس وأنس المجالس (1/45).

8 الغرباء، للآجُرِّي (1/20). وللاستفادة يرجع إلى مقال في مجلة البيان العدد (7)ص بعنوان الغربة والغرباء41.