الفراغ وحش قاتل

الفراغ وحش قاتل

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .. أما بعـد:

أيهـا الأحبـة:

إن الوقت نعمة عظيمة من نعم الله علينا؛ إذا شغل بطاعة الله ومرضاته أما إذا شغل بمعصية الله فإنه بلاء ومحنـة، ولا يدرك أهميـة الوقت إلا من تزاحمت عليه الأعمال وكثرت التكاليف، هناك يدرك أهمية الوقت، ويتعجب لأناس يضيعون أوقاتهم! قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)1 .

فنعمة الفراغ من النعم التي يغفل عنها كثير من الناس، ويجهلون قدرها، ولا يقومون بشكرها..

يسـر الفتى طول السلامة والبقا *** فكيف ترى طول السلامة يفعل

يرد الفتى بعد اعتـدال وصحـة *** ينـوء إذا رام القيام ويحمــل2

وقال الطيبي: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للمكلف مثلاً بالتاجر الذي له رأس مال، فهـو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله ويلزم الصدق والحذق لئلا يغبن، فالصحة والفراغ رأس المال، ينبغي له أن يعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النفس، ليربح خيري الدنيا والآخرة، وقريب منه قول الله –تعالى-: )هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم(3.

أيها الأحبـة: تأملوا -أيضاً- في الحديث الآخر الذي قال فيه رسول الله: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)4 والفراغ لا يبقى فراغاً أبداً، فلا بد له أن يملأ بخير أو شر، ومن لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل، فطوبى لمن ملأه بالخير والصلاح، وويل لمن ملأه بالشر والفساد.

وكان السلف الصالحون يكرهون من الرجل أن يكون فارغاً ، لا هو في أمر دينه، ولا هو في أمر دنياه ولهذا قيل: الفراغ للرجال غفلة وللنساء غلمة، أي محرك للغريزة والتفكير في أمر الشهوة، وهل كان قلق امرأة العزيز بيوسف وشغفها به، وتدبيرها المكايد لإيقاعه في شباكـها إلا نتيجة الفراغ الذي تعيش فيه؟!.

يقول علماء الاجتماع: إن من أسباب الجرائم الفراغ، فالشاب عندما يكون فارغاً يفكر في أي فعل! وفي الغالب –مع قلة التربية والوازع الإيماني- يتوجه تفكيره لارتكاب الجرائم المختلفة.

وفي هذا يقول الشاعر:

إن الشباب والفراغ والجـدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة

ويقول الآخـر:

لقد هاج الفراغ عليه شغلاً *** وأسباب البلاء من الفراغ

وانظروا إلى السف الصالح وإلى حرصهم على أوقاتهم. قالت داية لداود الطائي: يا أبا سليمان أما تشتهي الخبز ؟ فقال: يا داية بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية!!. وكان أبو النضر أباذي يقول: مراعاة الأوقات من علامات التيقظ، وقال حماد بن سلمة: ما أتينا سلمان التيمي في ساعة يطاع الله  فيها إلا وجدناه مطيعاً 5 إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئاً أو عائداً مريضاً، أو مشيعاً لجنـازة، أو قاعداً في المسجد6.

أيها الأحبـة: إن الفراغ وحش قاتل يوشك أن يودي بصاحبه فيلقيه في النار، ألا فلنستغل أوقاتنا وأعمارنا بطاعة ربنا، فإن الوقت ليس من ذهب فقط كما يقول المثل الشائع، بل هو أغلى في حقيقة الأمر من الذهب واللؤلؤ والماس، ومن كل جوهر نفيس وحجر كريم.

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيع

اللهم وفقنا لاستغلال أوقاتنا بطاعتك يا أرحم الرحمين..

والحمد لله رب العالمين،،،


1 – رواه البخاري 6412.

2 – فتح الباري 11/234.

3 – المصدر السابق 11/234-235.

4 – رواه الحاكم وقال: (صحيح على شرطهما) وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم 3355.

5 – جامع العلوم والحكم 464.

6 -حلية الأولياء 2/82.