ما هو المسجد الذي أسس على التقوى؟

ما هو المسجد الذي أسس على التقوى؟

 

الحمد لله القائل: في محكم التنزيل {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ*لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}1، والصلاة والسلام على نبي الأمة، وكاشف الغمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين أما بعد:

فإن كلمة التقوى كلمة جامعة مانعة – أي جامعة للخيرات، مانعة من المعاصي والسيئات -، ولذلك أوصى الله بها الأولين والآخرين فقال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}2، وأمر بها نبيه – صلى الله عليه وسلم – فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}3، فمن حقق التقوى؛ فقد حاز على سعادة الدنيا والآخرة، ومن أسس حياته على التقوى فقد أسسها على أساس متين؛ لأن أساس التقوى هو أعظم الأسس عند الله – سبحانه وتعالى -، ولذلك أمر الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – بارتياد المسجد الذي أسس على التقوى، وبالقيام به فقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}4.

ما معنى أساس التقوى؟

قال ابن عاشور – رحمه الله -: "إن كلمة الشهادة أصل التقوى؛ لأن أساس التقوى اجتناب عبادة الأصنام، ثم تتفرع على ذلك شعب التقوى كلها"5، وقال ابن عجيبة – رحمه الله -: "وهذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال: الأول: عمل قلبي وهو الإيمان، والثاني: عمل بدني وهو الصلاة، والثالث: عمل مالي وهو الإنفاق في سبيل الله، وهذه الأعمال هي أساس التقوى التي تدور عليها"6، وقال الشوكاني – رحمه الله -: "ومعنى تأسيسه على التقوى؛ تأسيسه على الخصال التي تتقى بها العقوبة"7.

وإذا كان هذا هو أساس التقوى! فما هو المسجد الذي أسس على التقوى؟

المسجد الذي أسس على التقوى:

اختلف أهل العلم في تعيين المسجد الذي أسس على التقوى المذكور في قوله – تعالى-: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى}8؛ إلى ثلاثة أقوال:

الأول: أنه مسجد قباء.

الثاني: أنه مسجد المدينة – أي مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم -.

الثالث: أن المراد به كل مسجد بني في المدينة.

قال ابن الجوزي – رحمه الله -: "وفي هذا المسجد ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالمدينة الذي فيه منبره وقبره،  والثاني: أنه مسجد قباء، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، وعروة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والضحاك، ومقاتل، والثالث: أنه كل مسجد بني في المدينة قاله محمد بن كعب".

أدلة القول الأول:

1- ما روى الطبراني من حديث مُحَمَّدِ بن عَبْدِ اللَّهِ بن سَلامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَسْجِدَ قِبَاءَ، فَقَامَ عَلَى بَابِهِ فَقَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فِي الطَّهُورِ، فَمَا طَهُورُكُمْ؟)) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَهْلُ كِتَابٍ، وَنَجِدُ الاسْتِنْجَاءَ عَلَيْنَا بِالَمَاءِ، وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ الْيَوْمَ، فَقَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فِي الطَّهُورِ)) فَقَالَ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}9.

2- قول عروة – رضي الله عنه – حيث قال: "مسجد قباء هو المسجد الذي أسس على التقوى"10.

3- إن الآية نزلت فيه وفي الأنصار الذين أثنى الله عليهم فيه، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – هو الذي أسسه وبناه بيده، ودليلهم؛ ما رواه هشام بن عروة عن عائشة – رضي الله عنها –  قالت: "أول من حمل حجرًا لقبلة مسجد قباء رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ثم حمل أبو بكر – رضي الله عنه – حجراً آخر، ثم حمل عمر – رضي الله عنه – آخر، ثم حمل عثمان – رضي الله عنه –  آخر، فقلت: "يا رسول الله ألا ترى هؤلاء يتبعونك؟" فقال: ((أما إنهم أمراء الخلافة بعدي))11.

أدلة القول الثاني:

1- ما روى مسلم – رحمه الله – من حديث أبي  سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: "مَرَّ بِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الخدري – رضي الله عنه – فقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ سَمِعْتَ أَبَاكَ يَذْكُرُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: قَالَ أَبِي: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: فَأَخَذَ كَفًّاً مِنْ حَصْبَاءَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: ((هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا)) لِمَسْجِدِ الْمَدِينَة، ِقَالَ: فَقُلْتُ "أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ هَكَذَا يَذْكُرُهُ"12، وقال الطحاوي – رحمه الله – راداً على أصحاب القول الأول الذين قالوا: إن الأنصار كانوا في مسجد قباء، وهم الذين نزلت فيهم الآية "وكان من حجتنا على قائل ذلك القول أن أولئك الرجال كانوا في مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ لأن مسجده كان معموراً بالمهاجرين والأنصار ومن سواهم من صحبه، فلم يكن في هذا الحديث ما يدل على خلاف الأحاديث الأول، وكان حديث إبراهيم عن عارم حديثاً منقطعاً لا يقاوم مثله الأحاديث المتصلة التي رويناها في صدر هذا الباب، فثبت بذلك أن المسجد الذي أسس على التقوى هو المسجد المذكور فيها، وهو مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي بمدينته، لا ما سواه من المساجد، والله نسأله التوفيق"13.

الترجيح؟

الراجح من خلال النظر في النصوص أن كلاهما أسس على التقوى كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "إن قوله لمسجد أسس على التقوى من أول يوم؛ نزلت بسبب مسجد قباء، لكن الحكم يتناوله ويتناول ما هو أحق منه بذلك وهو مسجد المدينة"14، وإذا كانت الآية نزلت في مسجد قباء؛ فإن مسجد المدينة أسس على التقوى بفحوى الخطاب، ومعمور بالمهاجرين والأنصار، والأحاديث في بيان أنه مسجد المدينة أصح سنداً، وأصرح دلالةً.

اللهم وفقنا لكل خير، وادفع عنا كل ضير.

والحمد لله رب العالمين.


1 – (التوبة:108).

2 – (النساء: من الآية131).

3 – (الأحزاب: من الآية1).

4 – (التوبة: من الآية108).

5 – التحرير والتنوير (ج 13/ص 487).

6 – االبحر المديد (ج1/ص16).

7 – فتح القدير (ج3/ص316).

8 – (التوبة: من الآية108).

9 – المعجم الكبير للطبراني (ج 18/ص 438).

10 – مشكل الآثار للطحاوي (ج10/ص 367).

11 – مشكل الآثار للطحاوي (ج10/ص 368).

12 – رواه مسلم برقم (1398).

13 – مشكل الآثار للطحاوي (ج10/ص 370).

14 – منهاج السنة النبوية (جزء 7/ص74).