المؤاخاة والمعاهدة في المدينة

المؤاخاة والمعاهدة الإسلامية في المدينة

 

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً..

أما بعد:

عندما نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أقام فيها أسس المجتمع الإسلامي، من ذلك بناء المسجد النبوي والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ثم عقد معاهدة أزاح بها ما كان بينهم من حزازات في الجاهلية، وما كانوا عليه من نزعات قبلية جائرة، واستطاع بفضلها إيجاد وحدة إسلامية شاملة‏.‏

وسنذكر بعض تفاصيل تلك المؤاخاة والمعاهدة كما ذكر ذلك أهل الحديث والتاريخ في كتبهم..

قال الإمام البخاري -رحمه الله-:

باب: كيف آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه، وقال عبد الرحمن بن عوف: آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بيني وبين سعد بن الربيع لما قدمنا المدينة. وقال أبو جحيفة آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين سلمان وأبي الدرداء.

ثم ذكر البخاري حديث أنس -رضي الله عنه- أنه قال: قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة، فآخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فربح شيئاً من أقط وسمن، فرآه النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَهْيم يا عبد الرحمن). قال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الأنصار، قال: (فما سقت فيها؟) فقال: وزن نواة من ذهب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( أَوْلِم ولو بشاة).1

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قالت الأنصار للنبي -صلى الله عليه وسلم-: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: (لا). فقالوا: تكفوننا المؤونة، ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا.2

يقول ابن القيم -رحمه الله-: (ثم آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلاً نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، يتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله -عز وجل-: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (الأحزاب:6) رد التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوة. وقد قيل: إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها علياً أخاً لنفسه، والثبت الأول، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام، وأخوة الدار، وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة، بخلاف المهاجرين مع الأنصار، ولو آخى بين المهاجرين كان أحق الناس بأخوته أحب الخلق إليه، ورفيقه في الهجرة، وأنيسه في الغار، وأفضل الصحابة، وأكرمهم عليه: أبو بكر الصديق، وقد قال: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام أفضل)3 وفي لفظ: (ولكن أخي وصاحبي) وهذه الأخوة في الإسلام وإن كانت عامة كما قال: (وددت أن قد رأينا إخواننا) قالوا: ألسنا إخوانك؟ قال: (أنتم أصحابي، وإخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني)4 فللصِّدِّيق من هذه الأخوَّة أعلى مراتبها، كما له من الصحبة أعلى مراتبها، فالصحابة لهم الأخوَّة ومزية الصحبة، ولأتباعه بعدهم الأخوَّة دون الصحبة).5

وأما عن الحلف والمعاهدة التي عقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه فيقول عنها أنس بن مالك -رضي الله عنه-: (حالف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار في داري).6

وعن تفاصيل هذا الحلف يقول محمد بن إسحاق -رحمه الله-: كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي الأمي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم:

1.   أنهم أمة واحدة من دون الناس.

2. المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، ثم ذكر كل بطن من بطون الأنصار وأهل كل دار بني ساعدة وبني جشم وبني النجار وبني عمرو بن عوف وبني النبيت..

3.   وأن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء وعقل.

4.   ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.

5. وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيسة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعهم، ولو كان ولد أحدهم.

6.   ولا يَقتل مؤمن مؤمناً في كافر.

7.   ولا ينصر كافر على مؤمن.

8.   وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم.

9.   وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

10.    وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.

11.    وأن سِلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.

12.    وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضهاً بعضاً.

13.    وأن المؤمنين يبـىء بعضهم بعضاً بما نال دماءهم في سبيل الله.

14.    وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.

15.    وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن.

16.    وأنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلى أن يرضى ولي المقتول.

17.    وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.

18.  وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثناً ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبة يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

19.    وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله -عز وجل- وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم-).7

لقد استطاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكون مجتمعاً قوياً متماسكاً لا تهزه رياح الحوادث، ولا تزلزله شائعات الكفار والمنافقين، بنى مجتمعاً يضرب به المثل في حسن الأخلاق، والتعاون على البر والتقوى، ومناصرة المظلوم، والقيام لله -تعالى- حق القيام.

اللهم إنا نسألك مجتمعات صالحة مصلحة، هادية مهدية، تنشر الفضائل وتحارب الرذائل، وتقوم بما أمرتها به يا رب العالمين..


1– صحيح البخاري  رقم الحديث (3722).

2– رواه البخاري.

3– رواه البخاري ومسلم.

4– رواه مسلم.

5– زاد المعاد (3/56).ط: مؤسسة الرسالة 1407هـ.

6– رواه البخاري ومسلم.

7– البداية والنهاية (4/555-557) ط: دار عالم الكتب، بتحقيق الدكتور: عبد الله التركي.