بيت الله الحرام في جبين التاريخ

بيت الله الحرام في جبين التاريخ

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، واشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى الصراط المستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه من يومنا هذا إلى يوم الدين أما بعد:

فمن باب خذوا من التأريخ عبرة لابد أن نطل إطلالة تاريخيه على المسجد الحرام، نلمح من خلالها ابرز المراحل التاريخية التي مر بها بيت الله الحرام؛ لأنه أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله – سبحانه وتعالى – {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ}1، ولعظمة هذا البيت وقدم تأريخه فقد كتب فيه القاصي والداني والمسلم والكافر والذكر والأنثى والصغير والكبير، مما أدى إلى وجود كمٍ هائل من الإسرائيليات في تأريخ بيت الله الحرام، ولعلنا أن نقف بإذن الله مع بعض الجوانب من هذا التأريخ متحرين في ذلك صحيح المنقول وصريح المعقول.

أولا: هل كانت الكعبة مبنية قبل إبراهيم – عليه السلام -؟

وردت نصوص تدل على وجود البيت قبل إبراهيم – عليه السلام – منها على سبيل المثال: ما أخرجه البخاري – رحمه الله – في حديث ابن عباس الطويل في إسكان إبراهيم ذريته، وفيه: ((فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه إلى البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات…))، وفيه أيضاً قوله: ((… فقال لها الملك، أي لهاجر: لا تخافوا الضيعة فإن ههنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله..)) قال: ابن عباس- رضي الله عنه – "وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله…"2، ومن هذا قال من قال أن الملائكة هم الذين بنوا البيت قبل إبراهيم لكن الذي يترجح والله أعلم ان أول من بناه إبراهيم – عليه السلام – كبناء مرتفع ومستقل وأما قواعده فهي من قبل إبراهيم – عليه السلام – لقوله تعالى –{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}3.

قال: الشيخ وصي الله عباس"لا توجد في إثبات بناء الملائكة الكعبة الشريفة رواية مرفوعة ولا موقوفة صحيحة، وما وجد فهو من أقوال بعض التابعين، أو أتباع التابعين ولو صح فلا يعدو أن يكون من أحاديث بني إسرائيل التي استجازوا تحديثها"4 وقد سبقه إلى معنى هذا الكلام ابن جرير في "تفسيره".

والراجح: أن مكة لم تكن معمورة قبل إبراهيم – عليه السلام – بدليل قوله – تعالى – {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم}، ولم يكن بها ماء بدليل حديث ابن عباس – رضي الله عنهما –  السابق عند البخاري  في قوله: "… وليس يومئذ أحد وليس بها ماء"5، وقد روى البخاري – رحمه الله – قصة بنائها من حديث ابن عباس السابق الذكر، فقال:"ثم قال:- أي إبراهيم- يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟، قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر يعني: المقام، فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم"6، ثم بقيت مكة عامرة من عهد إبراهيم – عليه السلام – وتوالت القبائل العربية على سكناها إلى يومنا هذا.

ثانياً: أحداث مرت في تأريخ الكعبة.

من أهم هذه الأحداث الخاصة بالكعبة قصة أبرهة الحبشي الذي أراد هدم الكعبة فجعل الله كيده وأصحابه في تضليل وعاقبهم أشد العقاب في الدنيا، وذلك في السنة التي ولد فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – وعرفت بعام الفيل، لأن أبرهة قدم بفيلته لهدم الكعبة.

ومن الأحداث أن قريشاً أعادت بناء الكعبة قبل بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم –  وأخرجت الحِجر من البيت لما قصرت بهم النفقة.

ولم يكن على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – حول البيت حائط، وهكذا كانوا يصلون حول البيت إلى أن جاء عمر – رضي الله عنه –  فبنى حوله حائطاً جداره قصير ثم بناه  بعد ذلك عبد الله بن الزبير – رضي الله عنهما – 7، وكان عمر – رضي الله عنه – قد اشترى دوراً وهدمها وهدم على من قرب من المسجد، لما ضاق المسجد على الناس، وكذلك فعل عثمان – رضي الله عنه – لما ضاق المسجد بالناس.8 ، ولما تولى عبد الله بن الزبير – رضي الله عنهما – مكة هدم الكعبة وبناها على قواعد إبراهيم – عليه السلام – وأدخل الحجر فيها، ولما قُتل عبد الله بن الزبير – رضي الله عنهما – أعاد الحجاج بناء الكعبة كما كان، بأمر من الخليفة عبد الملك بن مروان سنة 74 هـ ولعل عبد الملك لم يكن على علم بتمني النبي – صلى الله عليه وسلم – بناء الكعبة على قواعد إبراهيم.9، ثم بقيت الكعبة على هذا البناء لم يغيره أحد من الخلفاء أو الملوك إلا ما كان من بعض الترميمات والإصلاحات10.

ثالثاً: الحجر الأسود: وهو الحجر المنصوب في الركن الجنوبي الشرقي للكعبة المشرفة من الخارج في غطاء من الفضة وهو مبتدأ الطواف، ويرتفع عن الأرض الآن متراً ونصف المتر.

هل الحجر الأسود من الجنة؟

روى الطبري في "تفسيره"11والأزرقي في "أخبار مكة"12 بإسناد حسن أثراً طويلاً عن علي – رضي الله عنه – وفيه:"فقال أي إسماعيل: يا أبت من أتاك بهذا الحجر؟ قال: أتاني به من لم يتّكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء، فأتماه" وله حكم الرفع، وروى الترمذي13  وأحمد14وابن خزيمة15عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله عز وجل نورهما، ولولا أن الله طمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب))، وروى أحمد16وابن خزيمة17والحاكم18 عن ابن عباس – رضي الله عنهما –  عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن لهذا الحجر لساناً وشفتين؛ يشهد لمن استلمه يوم القيامة بحق))

الركن اليماني: هو ركن الكعبة الجنوبي الغربي، وإليه تنسب اليمن قال: أبو عبد الله البخاري – رحمه الله – وسميت اليمن يمناً لأنها عن يمين الكعبة، وذكر ياقوت الحموي" أن ابن قتيبة – رحمه الله – ذكر أن رجلاً من اليمن بناه، يقال له: أبيّ بن سالم، وأنشد لبعض أهل اليمن أبياتاً منها:

 لنا الركن من البيت الحرام وراثةً                             بقية ما أبقى أٌبيّ بن سالم"19.

وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستلمه في طوافه ويمسحه بيده الشريفة من غير تقبيل له ولا ليده بعد استلامه.

والحمد لله رب العالمين.


1 – (آل عمران:96)

2 – رواه البخاري برقم (3364).

3 – (البقرة:127)

4 – "المسجد الحرام تاريخه وأحكامه" تأليف: وصي الله عباس ص(190).

5 – المرجع السابق.

6 – المرجع السابق .

7 – (انظر فتح الباري 7/148).

8 – (انظر أخبار مكة للأزرقي 2/68 وفتح الباري 7/146).

9 –  انظرصحيح مسلم  حديث رقم ( 1333).

10 – انظر فتح الباري (3/448)

11 – تفسير الطبري (1/551)

12 – أخبار مكة (1/62)

13 – سنن الترمذي رقم (878) وصححه الألباني – رحمه الله – في صحيح الجامع برقم ( 16033).

14 – مسند احمد رقم ( 6961) وصححه الألباني – رحمه الله – في صحيح الجامع برقم ( 16033).

15 –  صحيح ابن خزيمة برقم ( 2524) وصححه الألباني – رحمه الله – في صحيح الجامع برقم ( 16033).

16 –  مسند احمد رقم (3394) وقال الشيخ الألباني: ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2184 في صحيح الجامع.

17 – صحيح ابن خزيمة برقم ( 2529) وقال الشيخ الألباني: ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2184 في صحيح الجامع.

18 –  مستدرك الحاكم برقم ( 1633) وقال الشيخ الألباني: ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2184 في صحيح الجامع.

19 – معجم البلدان ( ج3/ ص 64)