حج الصبي

حج الصبي

 

الحمد لله ما حمده الذاكرون الأبرار، والصلاة والسلام على المصطفى المختار، وعلى آله وصحبه سادة الدنيا والبقية الأطهار، أما بعد:

فإن من المسائل التي تطرق الفقهاء إلى إيرادها ضمن مسائل الحج مسألة حج الصبي، وما يتعلق بحجته من أحكام، كانت محل تناول العلماء قديماً وحديثاً، مستندين على نصوص لوقائع عين، وفرعوا من تلك الوقائع جزئيات ومسائل هي محل بحثنا، وبيت القصيد، ولعلنا أن نتطرق إلى تفاصيل المسألة من خلال المحاور الآتية:

أولاً: ما المراد بالصبي:

الصبي: هو من لم يبلغ، ويعرف البلوغ بواحد من ثلاثة أشياء:

أحدها: الاحتلام إجماعاً بشهادة النص بذلك قال الله – تعالى -: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}1، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((رفع القلم عن ثلاثة ذكر منها: الصبي حتى يحتلم))2.

والثاني: إنبات الشعر الخشن حول القبل؛ لما روي عن عطية القرظي قال: عرضنا على النبي – صلى الله عليه وسلم -يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله فكنت ممن لم ينبت، فخلي سبيلي"، وفي لفظ: "فمن كان محتلماً أو نبتت عانته قتل، ومن لا ترك"3، قال أبو عيسى: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم أنهم يرون الإنبات بلوغاً إن لم يعرف احتلامه ولا سنه، وهو قول أحمد وإسحاق4.

الثالث: بلوغ خمس عشرة سنة لما روى ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: "عرضت على النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني"5، قال نافع: فحدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث فقال: هذا فصل ما بين الرجال وبين الغلمان، فمن لم يوجد فيه علامة من هذه فهو صبي، وهذه العلامات يشترك فيها الذكر والأنثى، وتزيد الأنثى بالحيض والحمل.6

ثانياً: مشروعية حج الصبي وصحة إحرامه:

ذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء أن حج الصبي منعقد صحيح يثاب عليه، وإن كان لا يجزيه عن حجة الإسلام بل يقع تطوعاً، واستدلوا على ذلك بأحاديث صريحة منها:

حديث ابن عباس – رضي الله عنه – بعثني الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الثقل من جمع بليل، وفيه: "أقبلت، وقد ناهزت الحلم، أسير على أتان لي، ورسول الله  – صلى الله عليه وسلم – قائم يصلى بمنى، حتى سرت بين يدي بعض الصف الأول، ثم نزلت عنها فرتعت، فصففت مع الناس وراء رسول الله – صلى الله عليه وسلم -" يقول صاحب عمدة القاري: فالحديث مطابقته للترجمة – يعني ترجمة البخاري باب حجة الصبيان – من حيث إن ابن عباس كان مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في حجة وهو ما دون البلوغ، فدخل تحت قوله: "باب حجة الصبيان"7.

وعن السائب بن يزيد – رضي الله عنه – قال: "حُجَ بي مع النبي – عليه الصلاة والسلام – وأنا ابن سبع سنين"8، وجاء عن ابن عباس – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – لقى ركباً بالروحاء فقال: ((من القوم))؟، قالوا: المسلمون، فقالوا: ((من أنت))؟ قال: رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت: ألهذا حج، قال: ((نعم، ولك أجر))9 قال صاحب تحفة الأحوذي: "فيؤخذ من مجموع هذه الأحاديث أنه يصح حج الصبي: ولا يجزئه عن حجة الإسلام إذا بلغ، وهذا هو الحق، فيتعين المصير إليه جمعاً بين الأدلة"10.

ولقد كان الصحابة – رضوان الله عليهم – يحبون أن يحجوا بأبنائهم، ويحثون عليه، فهذا أبو بكر الصديق حج بابن الزبير، وقال عمر: أحجوا بهذه الذرية، فكان ابن عمر يجرد صبيانه عند الإحرام، ويقف بهم المواقيف، وكانت عائشة – رضي الله عنه – تفعل ذلك، وفعله عروة بن الزبير11.

وخالف في ذلك الأحناف فقالوا: لا يصح حجه، وأنه لا يلزمه شيء بفعل شيء من محظورات الإحرام، وإنما يحج به على جهة التدريب، قال أصحابه: وإنما فعلوه تمريناً له؛ ليعتاده فيفعله إذا بلغ12.

وهذه الأحاديث ترد عليهم قال ابن القصار: والحجة على أبى حنيفة في نفيه عنه حج التطوع ما رواه ابن عباس – رضي الله عنه – من قول المرأة: ((ألهذا حج يا رسول الله))؟ قال: ((نعم، ولك أجر))13، فأضاف الحج الشرعي إليه، فوجب أن يتعلق به أحكامه، وأكد هذا بقوله: ((ولك أجر)) أخبر أنها تستحق الثواب عن إحجاجه، وهذا مذهب ابن عباس وابن عمر وعائشة، وقد روى عن ابن عباس أنه قال لرجل حج بابن صبى له أصاب حماماً في الحرم: "اذبح عن ابنك شاة"14.

ولا يفهم من خلاف الإمام أبي حنيفة – رحمه الله تعالى – أنه ينفي جواز حج الصبي، إنما خلاف أبي حنيفة في هل ينعقد حجه وتجري عليه أحكام الحج، وتجب فيه الفدية، ودم الجبران، وسائر أحكام البالغ؟ فأبو حنيفة يمنع ذلك كله ويقول: إنما يجب ذلك تمريناً على التعليم، والجمهور يقولون: تجري عليه أحكام الحج في ذلك، ويقولون: حجه منعقد يقع نفلاً؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – جعل له حجاً، ولذا قال عياض: لا خلاف بين العلماء في جواز الحج بالصبيان، وإنما منعه طائفة من أهل البدع لا يلتفت إليهم بل هو مردود بفعل النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، وإجماع الأمة، وفيه انعقاد حج الصبي وصحته ووقوعه نفلاً، وإنه مثاب عليه في اجتناب ما يجتنبه الكبير مما يمنعه الإحرام، ويلزمه من الفدية والهدي ما يلزمه، وبه قال الأئمة الثلاثة والجمهور15.

ثالثاً: هل يسقط حجه حجة الإسلام:

قال ابن بطال: أجمع أئمة الفتوى على سقوط الفرض عن الصبي حتى يبلغ لقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((وعن الصبي حتى يبلغ))16، إلا أنه إذا حج به كان له تطوعاً عند الجمهور، وشذ بعضهم فقال: إذا حج الصبي أجزأه ذلك عن حجة الإسلام، واحتج بحديث ابن عباس – رضي الله عنه -: "أن امرأة سألت النبي – عليه الصلاة والسلام – عن صبى: هل لهذا حج؟ قال: ((نعم، ولك أجر))17، إلا أن الطحاوي استدرك على هذا بقوله: لا حجة فيه لذلك، بل فيه حجة على من زعم أنه لا حج له؛ لأن ابن عباس راوي الحديث قال: "أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى"، فصرف حج الصبي إلى غير الفريضة18، وقد أجمعوا لو أن صبياً دخل وقت صلاة فصلاها ثم بلغ بعد ذلك في وقتها أن عليه أن يعيدها، فكذلك الحج.

وذكر الطبري: أن هذا تأويل سلف الأمة، قال عطاء: يجرد الصغير، ويلبى عنه، ويجنب ما يجنب الكبير، ويقضى عنه كل شيء إلا الصلاة، فإن عقل الصلاة صلاها، فإذا بلغ وجب عليه الحج.19

رابعاً: صفة إحرام الصبي:

ينقسم الصبي بالنسبة إلى مرحلة صباه إلى قسمين:

صبي مميز.

وصبي غير مميز.

وضابط المميز: هو الذي يفهم الخطاب، ويرد الجواب، دون اعتبار للسن.20

وتتفاوت كيفية إحرام الصبي وأدائه المناسك بتفاوت سنه هل هو مميز أو لا، أما الصبي المميز: فعند الحنفية والمالكية ينعقد إحرامه بنفسه، ولا تصح النيابة عنه في الإحرام؛ لعدم جواز النيابة عند عدم الضرورة، ولا تتوقف صحة إحرامه على إذن الولي، بل يصح إحرامه بإذن الولي، وبغير إذن الولي، لكن إذا أحرم بغير إذن الولي فقد صرح المالكية أن للولي تحليله، وله إجازة فعله وإبقاؤه على إحرامه بحسب ما يرى من المصلحة، فإن كان يرتجي بلوغه فالأولى تحليله؛ ليحرم بالفرض بعد بلوغه، فإن أحرم بإذنه لم يكن له تحليله، أما إذا أراد الولي الرجوع عن الإذن قبل الإحرام فقال الحطاب: "الظاهر أن له الرجوع، لاسيما إذا كان لمصلحته"21، ولم يصرح بذلك الحنفية، ولعله يدخل في الاحصار بمنع السلطان عندهم.

وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه لا ينعقد إحرامه إلا بإذن وليه، بل قال الشافعية: يصح إحرام وليه عنه على الأصح عندهم في المسألتين.22

أما عند الحنابلة فلا يحرم عنه وليه لعدم الدليل، ويفعل الصبي الصغير المميز كل ما يستطيع أن يفعله بنفسه، فإن قدر على الطواف علمه فطاف، وإلا طيف به، وكذلك السعي وسائر المناسك، ولا تجوز النيابة عنه فيما قدر عليه بنفسه، وكل ما لا يقدر الصبي على أدائه ينوب عنه وليه في أدائه.23

وأما الصبي غير المميز – ومثله المجنون جنوناً مطبقاً -: فيحرم عنه وليه بأن يقول: نويت إدخال هذا الصبي في حرمات الحج مثلاً، وليس المراد أن الولي يحرم في نفسه ويقصد النيابة عن الصبي، ولا ينعقد إحرام الصبي غير المميز بنفسه اتفاقاً.

ويؤدي الولي بالصبي غير المميز المناسك، فيجرده من المخيط والمحيط إن كان ذكراً، ويكشف وجه الأنثى وكفيها كالكبيرة على ما سبق فيه، ويطوف به ويسعى، ويقف به بعرفة، والمزدلفة، ويرمي عنه، ويجنبه محظورات الإحرام، وهكذا، لكن لا يصلي عنه ركعتي الإحرام أو الطواف24، بل تسقطان عنه عند الحنفية والمالكية، أما عند الشافعية فيصليهما الولي عنه، وهو ظاهر كلام الحنابلة.

إلا أن المالكية خففوا في الإحرام والتجرد من الثياب فقالوا: "يحرم الولي بالصغير غير المميز، ويجرده من ثيابه قرب مكة؛ لخوف المشقة، وحصول الضرر، فإن كانت المشقة أو الضرر يتحقق بتجريده قرب مكة أحرم بغير تجريده، كما هو الظاهر من كلامهم، ويفدي".

خامساً: بلوغ الصبي في أثناء النسك:

إن بلغ الصبي الحلم بعدما أحرم فمضى في نسكه على إحرامه الأول لم يجزه حجه عن فرض الإسلام عند الحنفية والمالكية.

وقال الحنفية: لو جدد الصبي الإحرام قبل الوقوف بعرفة، ونوى حجة الإسلام؛ جاز عن حجة الإسلام؛ لأن إحرام الصبي غير لازم لعدم أهليته للزوم عليه.

وقال المالكية: لا يرتفض إحرامه السابق، ولا يجزيه إرداف إحرام عليه، ولا ينقلب إحرامه عن الفرض؛ لأنه اختل شرط الوقوع فرضاً وهو ثبوت الحرية والتكليف وقت الإحرام، وهذا لم يكن مكلفاً وقت الإحرام فلا يقع نسكه هذا إلا نفلاً.

أما الشافعية والحنابلة فقالوا: إن بلغ الصبي في أثناء الحج ينظر إلى حاله من الوقوف فينقسم إلى قسمين:

الأول: أن يبلغ بعد خروج وقت الوقوف، أو قبل خروجه، وبعد مفارقة عرفات لكن لم يعد إليها بعد البلوغ، فهذا لا يجزيه حجه عن حجة الإسلام.

الثاني: أن يبلغ في حال الوقوف، أو يبلغ بعد وقوفه بعرفة، فيعود ويقف بها في وقت الوقوف، أيقبل طلوع فجر يوم النحر، فهذا يجزيه حجه عن حجة الإسلام، لكن يجب عليه إعادة السعي إن كان سعى عقب طواف القدوم قبل البلوغ، ولا دم عليه.

أما في العمرة: فالطواف في العمرة كالوقوف بعرفة في الحج، إذا بلغ قبل طواف العمرة أجزأه عن عمرة الإسلام عند من يقول بوجوبها.25

نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يعظم أجرنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


1 سورة النور (59).

2 رواه الترمذي برقم (1343)، وصححه الألباني في مختصر إرواء الغليل (1/405).

3 رواه الترمذي برقم (1510).

4 سنن الترمذي (4/145).

5 رواه البخاري برقم (2470)، ومسلم برقم (3473).

6 شرح الزركشي (3/210).

7 عمدة القاري (10/217).

8 رواه البخاري برقم (1725)، واستدل به صاحب رد المختار (2/193-194).

9 رواه مسلم برقم (2377).

10 تحفة الأحوذي (3/577).

11 شرح ابن بطال شرح حديث ابن عباس ناهزت الاحتلام.

12 شرح النووي على صحيح مسلم (9/99).

13 سبق تخريجه برقم (9).

14 شرح ابن بطال.

15 شرح الزرقاني (2/523).

16 سبق تخريجه برقم (2).

17 سبق تحريجه برقم (9).

18 الفتح لابن حجر (4/71).

19 ابن بطال عند شرح حديث ابن عباس ناهزت الاحتلام.

20 حاشية العدوي (1/584).

21 مواهب الجليل (2/482).

22 المجموع (7/28).

23 شرح منتهى الإرادات (1/513).

24 كشاف القناع (2/380).

25 الموسوعة الفقهية الكويتية (2/178).