الحج فضائل وأحكام

 

 

الحـــج فضائل وأحكام

الحمد لله الذي جعل حج بيته العتيق شرعة لأهل الإيمان، من لدن إبراهيم إلى محمد بن عبد الله خير بني الإنسان، واختص هذه الأمة المجيدة بوراثة البيت المجيد إلى قيام الساعة في آخر الزمان، وجعل الكعبة المشرفة قياماً للناس، يقيمون وجوههم إليها من كل مكان، وتجتمع قلوبهم عليها في كل زمان ((إن هذه أمتكم أمة واحدةً وأنا ربكم فاعبدون)).

والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة، الذي بعث لإخراج خير أمة جعلت الكعبةقبلتها، والحج والعمرة سياحتها، ولبيك اللهم لبيك نشيدها، والمسجد الحرام ملتقاها، يأتون إليه من كل فج عميق، حيث يذكرون الله بكل لسان، ويؤدون عبادة عظيمة بالأموال والأبدان والوجدان.

أما بعد:

فإن الحج من أفضل الطاعات عند رب العالمين، وأجل الأعمال الصالحة لمحو ذنوب المذنبين. فما هو الحج؟ وما منزلته في الدين، وما شروطه وأركانه؟ وما مفسداته. هذا ما سنذكره إن شاء  الله تعالى في هذ الدروس:

تعريف الحج:

قال في لسان العرب: الحج: القصد، حج إلينا فلان أي قدم.

والحج: قصد التوجه إلى البيت بالأعمال المشروعة فرضاً وسنة. وهو قصد الكعبة لأداءأفعال مخصوصة، أو هو زيارة مكان مخصوص في زمن مخصوص بفعل مخصوص.. والزيارة هي: الذهاب، والمكان المخصوص: الكعبة وعرفة. والزمن المخصوص: هو أشهر الحج، شوال وذوالقعدة، والعشر الأول من ذي الحجة. ولكلٍّ فعلٌ زمن خاص، والفعل المخصوص: أن يأتي مُحرماً بنية الحج إلى أماكن معينة.

متى شرع الحج؟

فُرض الحج في أواخر سنة تسع من الهجرة، وآية فرضه قوله –تعالى-: ((ولله على الناس حج البيت)) نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع، وهو رأي أكثر العلماء.

منزلة الحج في الدين وفضائله:

الحج من أفضل الأعمال، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (سُئل رسول الله  : أي الأعمال أفضل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله)، قيل: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور) رواه البخاري ومسلم.

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (قلت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلانجاهد؟ قال: (لكن أفضل من الجهاد حج مبرور) رواه البخاري.

ولقد بين النبي  أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) رواه البخاري ومسلم.

إن الحاج إن حج ولم يرفث ولم يفسق تطهَّر من ذنوبه وآثامه فيرجع كيوم ولدته أمه،فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله   يقول: (مَن حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) رواه البخاري ومسلم.

فهنيئاً للحجاج مغفرة الذنوب، إنهم وفد الله -عز وجل-، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله  : (الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم) رواه النسائي وابن ماجه.

وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله  : (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) رواه الترمذي.

حكم الحج:

اتفق العلماء على فرضية الحج مرة في العمر بدليل الكتاب والسنة. أما الكتاب فقول الله -تعالى-: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غنيٌ عن العالمين) آل عمران97.

وأما السنة فقول النبي  : (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة،وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) رواه البخاري ومسلم.

والحج إنما يجب على المسلم مرة واحدة في العمر؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-قال: خطبنا رسول الله   فقال: (يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال النبي  : (لوقلت نعم لوجبت، ولما استطعتم)1.

وقد يجب الحج أكثر من مرة لعارض! كنذر كأن يقول لله علي حجة. وقد يحرم الحج كالحج بمال حرام، وقد يكره كالحج بلا إذن ممن يجب استئذانه، كأن يكون أحد أبويه محتاجاً إلى خدمته، وكالدائن الغريم لمدين لا مال له يقضي به، وكالكفيل لصالح الدائن، إلابالإذن من صاحب الدَّين.

وهنا مسألة يتكلم عنها الفقهاء كثيراً، وهي: هل وجوب الحج على الفور أم على التراخي؟

ومعنى ذلك: من ملك المال الذي يستطيع به أن يحج وكان قادراً على الحج، ولم يكن به مرض ولا غير ذلك، هل يجب عليه أن يحج فوراً ولا يجوز أن يؤخر؟ أم أنه يحل له تأخيرالحج إلى أي وقت شاء؟!

اختلف الفقهاء في هذه المسألة فمنهم من قال بالوجوب على الفور، وهم أصحاب المذاهب الثلاثة: الحنابلة، والحنفية، والمالكية، واستدلوا بأدلة قوية منها:- قوله –تعالى-: ((ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً))وحديث: (حجوا قبل أن لا تحجوا) رواه الحاكم، وحديث: (تعجلوا إلى الحج-يعني الفريضة– فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له) رواه أحمد. وحديث: (من لم يحبسه مرض، أو حاجة ظاهرة، أو سلطان جائر، فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً) رواه الدارمي، ورواية الترمذي: (من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله، ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أونصرانياً؛ وذلك لأن الله قال في كتابه: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً)، لكن الترمذي ذكر للحديث علَّة.

وروى سعيد بن منصور في سننه عن عمر بن الخطاب أنه قال: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جِدَة -أي سعة من المال- ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين).

وذهبت الشافعية إلى القول بوجوب الحج على التراخي، قالوا: ويجوز أن يؤخره من سنة إلى سنة، لأن فريضة الحج نزلت على المشهور عندهم سنة ست، فأخر النبي   إلى سنة عشر من غير عذر، والذي يترجح -والله أعلم- الرأي الأول؛ لدلالة الأحاديث السابقة، وإن كان في بعضها ضعفٌ. ولسنا بصدد ذكر أدلة الفريقين والرد عليها. وإنما ذكرنا هذه المسألة بشيء من الاختصار؛ لأن هذا الدرس لا يسع ذلك.

حكم من أنكر فرضية الحج:

من أنكر فرضية الحج فهو كافر مرتد عن الإسلام إلا أن يكون جاهلاً، وهو ممن يمكن جهله بهذا الحكم كحديث عهد بإسلام، وناشئ في بادية بعيدة لا يعرف من أحكام الإسلام شيئاً، فهذا يُعذر بجهله ويُعرَّف، ويُبين له الحكم، فإن أصر على إنكاره حُكم بردته.

وأما من تركه متهاوناً مع اعترافه بفرضيته فهذا لا يكفر، ولكنه على خطر عظيم، وقد قال بعض أهل العلم بكفره.

شروط الحج:

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: وأما شروط وجوب الحج والعمرة فخمسة مجموعة في قول الناظم: 

  الحج والعمرة واجـبان في العمر مرة بلا تواني
بشرط إسلام كذا حرية عقل بلوغ قدرة جلية

فيشترط لوجوبه:

أولاً: الإسلام، فغير المسلم لا يجب عليه الحج، بل ولا يصح منه لو حج، بل ولا يجوز له دخوله مكة لقوله –تعالى-: ((إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا)) التوبة27.

فلا يحل لمن كان كافراً بأي سبب كان كفره دخول مكة، ولكن يحاسب الكافر على ترك الحج وغيره من فروع الإسلام على القول الراجح من أقوال أهل العلم؛ لقوله –تعالى-: (إلاأصحاب اليمين * في جنات يتساءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر * قالوا لم نكُ من المصلين * ولم نكُ نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين) (المدثر39-45).

ثانياً: العقل، فالمجنون لا يجب عليه الحج، فلو كان الإنسان مجنوناً من قبل أن يبلغ حتى مات فإنه لا يجب عليه الحج ولو كان غنياً.

ثالثاً: البلوغ: فمن كان دون البلوغ فإنه لا يجب عليه، لكن لو حج فإن حجه صحيح،ولكن لا يُجزئه عن حجة الإسلام لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للمرأة التي رفعت إليه صبياً وقالت: ألهذا حج؟ قال: (نعم ولك أجره)2. لكنه لا يُجزئه عن حجة الإسلام، لأنه لم يُوجَّه إليه الأمر بها. حتى يجزئه عنها،ولا يتوجه الأمر إليه إلا بعد البلوغ.

يقول الشيخ ابن عثيمين: وبهذه المناسبة أحب أن أقول: إنه في مثل المواسم التي يكثر فيها الزحام ويشق فيها الإحرام للصغار ومراعاة إتمام مناسكهم، الأولى ألا يحرموا بحج ولا عمرة؛ لأنه يكون فيه مشقة عليهم وعلى أولياء أمورهم، وربما شُغلوا عن إتمام مناسكهم، فيبقوا في حرج، وما دام الحج لم يجب عليهم، فإنهم في سعة من أمرهم.

رابعاً: الحرية: فالرقيق المملوك لا يجب عليه الحج، لأنه مملوك مشغول بسيده، فهومعذور بترك الحج لا يستطيع السبيلَ إليه.

خامساً: القدرة على الحج بالمال والبدن: فإن كان الإنسان قادراً بماله دون بدنه،فإنه يُنيب من يحج عنه لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن امرأة خثعمية سألت النبي  فقالت: يا رسول الله! إن أبي أدركته فريضة الله على عباده في الحج شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال:( نعم، وذلك في حجة الوداع)3. ففي قولها: أدركته فريضة الله على عباده في الحج، وإقرار النبي   إياها على ذلك دليل على أن من كان قادراً بماله دون بدنه، فإنه يجب عليه أن يُقيم من يحج عنه. أما مَن كان قادراً ببدنه دون ماله، ولا يستطيع الوصول إلى مكة ببدنه، فإن الحج لا يجب عليه.

وألحق بعض العلماء بهذا الشرط أمن الطريق، بحيث يكون الطريق آمناً لا خوف فيه، فإن عُدم هذا الشرط لم يجب عليه الحج.

وهنا شروط زائدة خاصة بالنساء:

أحدهما: أن يكون معها زوجها أو محرم لها، فإن لم يُوجد أحدهما لا يجب عليها الحج.

الثاني: ألا تكون معتدة عن طلاق أو وفاة؛ لأن الله –تعالى- نهى المعتدات عن الخروج بقوله: (لا تخرجوهن من بيوتهن) (الطلاق-1). ولأن الحج يمكن أداؤه في وقت آخر.

فهذه أحكام تتعلق بالحج، وفضائل تدل على علو شأنه في دين الله..

اللهم إنا نسألك حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً.. ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين..

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 -رواه مسلم.

2 -رواه أبو داود صححه الألباني.

3 -رواه الترمذي وصححه الألباني.