تعظيم المساجد

تعظيم المساجد

الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين، عز فارتفع، وعلا فامتنع، وذل كل شيء لعظمته وخضع، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه، وعلى آله الأطهار، وصحابته الكرام، وسلم تسليماً مباركاً إلى يوم الدين.. أما بعد:

من المعلوم أن المساجد هي من أعظم شعائر الإسلام، ولذا ينظرُ الإسلام إلى المساجد نظرةً خاصة وهامة جداً من حيث اعتبارها ميداناً واسعاً، ومكاناً رحباً يُعْبَدُ اللَّهُ – تبارك وتعالى – فيه ويطاع، ولذا منحه فضائل فريدة، وميَّزَه بخصائص عديدة، باعتباره منطلق الدعوة إلى الله – تبارك وتعالى -، ولقد عَظَّم الإسلامُ المساجد، وأعلى مكانتَها، ورسَّخَ في النفوس قدسيتَها، فأضافها اللَّهُ – تبارك وتعالى – إليه إضافةَ تشريفٍ وتكريم فقال – جل وعلا -: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18] وقال فيها سبحانه وتعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:36-37].

فالمساجد تحتل مرتبةً مميزة ومعظمة في أفئدة المسلمين، تزكو به نفوسُهم، وتطمئن قلوبُهم، وتتآلف أرواحهم، وتصفو أذهانُهم، يجتمعون فيها بقلوبٍ عامرةٍ بالإيمان، خاشعة متذللةٍ لرب الأرض والسماوات، فرسالة المساجد شاملة ومتنوعة، فهي تغرس الآداب والأخلاق الحميدة، وتوفر الطمأنينة النفسية والروحية للإنسان، وتخفف عن الناس أعباءَ الحياةِ وآلامها، وتكبحُ فيهم جموح الغرائز وشهواتها، وترسّخ أواصر المحبة وروابط الألفة بين الأفراد، وتنشر الاستقرار والاطمئنان في أهل الحي.

وإن من تعظيم الإسلام للمساجد تنزيهها عن النجاسات والأوساخ كالبصاق والنخامة وغيرها وذلك لأنها بنيت لعبادة الرحمن – تبارك وتعالى – وذكره، وقراءة القرآن لحديث جابر  قال: “أتانا رسول الله  في مسجدنا هذا وفي يده عرجون ابن طاب، فنظر فرأى في قبلة المسجد نخامة، فأقبل عليها فحتها بالعرجون ثم قال: أيكم يحب أن يعرض الله عنه بوجهه؟ ثم قال: إن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله قِبَلَ وجهه، فلا يبصقن قِبَلَ وجهه، ولا عن يمينه، وليبزق عن يساره تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة – أي حدة وهو من المبادرة – فليقل بثوبه هكذا ووضع على فيه ثم دلكه، ثم قال: أروني عبيراً فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله، فجاء بخلوق في راحته، فأخذه رسول الله فجعله على رأس العرجون، ثم لطخ به على أثر النخامة، قال جابر: فمن هناك جعلتم الخلوق في مساجدكم”1.

قال القاضي عياض – رحمه الله – في شرحه على صحيح مسلم: “وفى الحديث تعظيم المساجد، وتنزيهها عن الأقذار، وجواز تطييبها وتجميرها”2، وقال النووي – رحمه الله -: “في هذا الحديث تعظيم المساجد، وتنزيهها من الأوساخ ونحوها، وفيه استحباب تطيبها”3.

ولحديث أنس بن مالك  قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله : مه مه قال: قال رسول الله : لا تزرموه دعوه فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله دعاه فقال له: أن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله ​​​​​​​، والصلاة، وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله قال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء، فشنه عليه”4.

ومن تعظيمها ورد النهي عن دخولها بالروائح الكريهة كالثوم والبصل وغيرها مما له رائحة كريهة لحديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – عن النبي قال: من أكل من هذه البقلة الثوم – وقال مرة: من أكل البصل، والثوم، والكراث – فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم 5 وعنه  قال: قال رسول الله : من أكل من هذه الشجرة قال أول يوم: الثوم، ثم قال: الثوم، والبصل، والكراث، فلا يقربنا في مساجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس6.

ويلحق بذلك الدخان لما له من رائحة كريه، ويكره أن يصلي الجماعة حتى يغتسل أو تزول الرائحة، وقد قال بذلك العلامة ابن باز – رحمه الله تعالى -: “وكل ما له رائحة كريهة حكمه حكم الثوم والبصل كشارب الدخان، ومن له رائحة في إبطه، أو غيرهما مما يؤذي جليسه؛ فإنه يكره له أن يصلي مع الجماعة، وينهى عن ذلك حتى يستعمل ما يزيل هذه الرائحة، ويجب عليه أن يفعل ذلك مع الاستطاعة حتى يؤدي ما أوجب الله عليه من الصلاة في الجماعة”7 وكذلك الشيشة وقد يكون أشدّ منه وأعظم إثمًا وهو عندما تنبعث من الجوال تلك النغمات الصاخبة الموسيقية أو أغاني، فإن ذلك يؤذي جميع المصلين، فكان هو أشد أذية من صاحب البصل أو الثوم، لأن الذي يأكل منهما قد آذى اثنين وهما اللذان بجانبه، فكم يؤذي صاحب الجوال من العشرات من المصلين، ويبوء بإثمهم؟!.

ومن تعظيم المساجد أنه ورد النهي عن إنشاد الضالة فيها، وذلك لأنها بنيت للعبادة ولم تبن لغير ذلك، ومن أنشد ضالة فيقال له: لا ردها الله عليك لحديث أبي هريرة  قال: قال رسول الله : من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا8 قال المناوي – رحمه الله -: “أي: وإنما بنيت لذكر الله – تعالى -، والصلاة، والعلم، والمذاكرة في الخير ونحو ذلك، ولما وضع الشيء في غير محله ناسب الدعاء عليه بعدم الربح والوجدان؛ معاقبة له بنقيض قصده، وترهيباً وتنفيراً من مثل فعله، فيكره ذلك بالمسجد تنزيهاً عند الشافعي إلا لضرورة، وقيده الحنفية بما إذا أكثر ذلك فيه، ونبه بذكر البيع والشراء على كل معاملة، واقتضاء حق، ورام زيادة التنبيه على ذلك بذكر النشد، فإن صاحب الضالة معلق القلب بها، وغيره مأمور بمعاونته؛ فإذا مُنِعَ فغيره من كل أمر دنيوي أولى للكلام فيمن بلغه النهي فخالف إذا أمكنه التعلم ففرط، أما غيره فمعذور فلا يدعى عليه، بل يُعَلَّم، وألحق جمع منهم الحافظ العراقي بإنشاد الضالة تعريفها، ولذلك قال الشافعية: يعرفها على باب المسجد، قال النووي: وفيه كراهة نشد الضالة، ورفع الصوت فيه، قال القاضي: قال مالك وجمع من العلماء: يكره رفع الصوت فيه بالعلم، والخصومة وغيرهما”9.

ومن تعظيمها ورود النهي عن البيع فيها وذلك لحديث أبي هريرة  : أن رسول الله  قال: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا: لا رد الله عليك10 وذلك لأن المساجد سوق للآخرة، فمن عكس ذلك وجعلها سوقاً للدنيا فحري بأنه يدعى عليه بالخسران والحرمان، وقد بوب الإمام الترمذي – رحمه الله – في جامعه “باب النهي عن البيع في المسجد”11، وبوب الأمام النووي – رحمه الله – في كتابه الأذكار “باب  إنكاره ودعائه على من يَنشُدُ ضالّةً في المسجد، أو يبيعُ فيه”12.

ومن تعظيم هذا الدين للمساجد أن جعل ثواب من حافظ على الصلاة فيها حتى تعلق قلبه بها، وغدا إليها وراح الجنة، ويظل تحت ظل عرش الرحمن  لحديث أبي هريرة  : عن النبي  قال: من غدا إلى المسجد وراح أعدَّ الله له نزلة من الجنة كلما غدا أو راح13 ، وعن أبي هريرة : عن النبي  قال: سبعة يظلهم الله في ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد …. الحديث14 وما ذلك إلا لعظم المساجد عند الله  . 

ومن تعظيم المساجد نُهي عن رفع الصوت فيها وذلك لما ثبت من حديث عبد الله بن مسعود  قال: قال رسول الله  : ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم (ثلاثا)، وإياكم وهيشات الأسواق15.

هذا ونسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن تعلقت قلوبنا بالمساجد، ونسأل الله أن يعيننا على طاعته ورضاه، وأن يجعلنا والمسلمين من أهل الجنة، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.


1 رواه مسلم في صحيحه برقم (3008)؛ وأبو داود برقم (485) واللفظ له, وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (459).

2 إكمال المعلم شرح صحيح مسلم (8 /285).

3 شرح النووي على مسلم (18/ 138).

4 رواه مسلم برقم (285). 

5 رواه مسلم برقم (564).

6 رواه النسائي برقم (707)؛ وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6089).

7 تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام (122).

8 رواه مسلم برقم (568).

9 فيض القدير (1 /356).

10 رواه الترمذي برقم (1321)؛ والدارمي برقم (1401)؛ وصححه ابن خزيمة في صحيحه برقم (1305)؛ والحاكم في المستدرك برقم (2339) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (291).

11 سنن الترمذي (3 /610) بتحقيق أحمد شاكر وآخرون.

12 الأذكار للنووي (357).

13 رواه البخاري برقم (631)؛ ومسلم برقم (669).

14 رواه البخاري برقم (629) ورقم (1357) واللفظ له؛ ومسلم برقم (1031).

15 رواه مسلم برقم (432).