أين أثر القرآن يا معلم القرآن؟

أين أثر القرآن يا معلم القرآن؟

الحمد لله رب العالمين، منزل خير كتاب على خير رسول على خير أمة، والصلاة والسلام على من كان خلقه القرآن، وعلى ذلك ربى صحابته الكرام، فصلوات الله عليهم أجمعين، وعلى آله ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين .. أما بعد:

اختص الله ​​​​​​​ المعلم بمنزلة عظيمة متى اخلص واتصف بالصفات الحميدة يقول النبي : إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت؛ ليصلون على معلم الناس الخير1، وقال عليه الصلاة والسلام: من دعا إلى هدى؛ كان له من الأجر مثل أجور من تبعه؛ لا ينقص ذلك من أجـورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة؛ كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه؛ لا ينقص من آثامهم شيئاً 2، وكل هذه الأجور وغيرها أعدت لمعلم القرآن، وهذا أمر جعله الله – تعالى  له، فما الأمر الذي عليه، عليه عبءٌ كبيرٌ، وحملٌ ثقيلٌ؛ فهو يحمل بين جنبيه القرآن الكريم. يا معلم القرآن لست اليوم كما كنت البارحة، بل أنت اليوم قدوة يُقتدى بك، وأسوة يتأسى بك، أنت اليوم متابع، فكل حركاتك وسكناتك أمام طلابك ملحوظة، وكل كلماتك وهمساتك عندهم مسموعة.

يا معلم القرآن إنك من أهل القرآن، وكل ما تفعله قد يحسبه البعض من أخلاق حملة القرآن، أو معلميه للناس، فهذا النبي  لا يلبث الناس أن يتأملوا قليلاً في جزئيات حياته؛ إلا ويحكمون بحكم مختصر فيه خلاصة ما شاهدوه منه  فعن سعد بن هشام بن عامر قال: “أتيت عائشة رضي الله عنها فقلت: يا أم المؤمنين، أخبريني بخلق رسول الله  قالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن قول الله ​​​​​​​ :وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]، قلت: فإني أريد أن أتبتل، قالت: لا تفعل، أما تقرأ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]، فقد تزوج رسول الله  ، وقد ولد له”3، فانظر رعاك الله تتبع أخلاق المعلم وأفعاله من قبل أتباعه، وانظر إلى حرص الطالب على تقليد معلمه.

إن معلم القرآن لابد أن يكون أكثر الناس عملاً بالقرآن، وأقربهم إليه امتثالاً وتطبيقاً، والقرآن يدعو إلى محاسن الأعمال والأخلاق، ومن ذلك ما يحتاجه كل مسلم، وأشد الناس حاجةً إليه معلم القرآن؛ إنها تقوى الله ​​​​​​​ التي يحفظ آياتها معلم القرآن، ويردد لفظها كل ما قلب صفحات المصحف يقول تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]، تقوى الله التي يترك بها المسلم الذنوب الصغائر والكبائر، التي يدع الذنب بها في السر والعلن، ومما لابد أن يتحلى به معلم القرآن الإخلاص لله رب العالمين، يقول عز من قائل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، الإخلاص الذي يحتاجه المعلم وهو يعلِّم كتاب الله لطلبته مبتغياً بذلك وجه الله تعالى، الإخلاص الذي يحتاجه المعلم وهو يعبد الله أمام طلابه، فيخلص لله مع علمه أنهم يرقبونه، وينظرون أفعاله، ومما ينبغي أن يتصف به معلم القرآن مطابقة القول العمل، فكم من التوجيهات يلقيها المعلم على طلبته، وكم من النصائح والإرشادات التي تطلب من طلابه العمل بها، وهو بعيد عنها كل البعد – إلا من رحم الله -، فما أكثر ما عندنا من آياتٍ وعلمٍ؛ ولكن أين التطبيق والعمل، يقول ابن مسعود  : “ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم الخشية”؛ وقال: “أنزل القرآن ليعمل به فاتخذتم دراسته عملاً، وسيأتي قومٌ يثقفونه مثل القناة؛ ليسوا بخياركم، والعالم الذي لا يعمل كالمريض الذي يصف الدواء، وكالجائع الذي يصف لذائذ الأطعمة ولا يجدها”..وقال الحسن: “تعلموا ما شئتم أن تعلموا فوالله لا يأجركم الله حتى تعملوا”4.

ولابد أن يكون معلم القرآن متمسكاً بسنة النبي المصطفى  ظاهراً وباطناً؛ متابعاً له في كل عباداته يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء: 59].

ومما لابد لمعلم القرآن أن يتحلى به المحافظة على صلاة الجماعة، والحرص على الصفوف الأول، فالمعلم يرمقه الطالب، ويرمقه ولي أمر الطالب، والكل يرجو أن يكون المعلم أحسن الناس حالاً، وأكثرهم للخير مسارعةً، فهذا وليُّ أمرٍ سئل: ما الصفات التي لا تعجبك في معلم ولدك؟، قال: تأخره عن الصلاة!، والمعلم لعله لم يشعر بهذه المتابعة الدقيقة من ولي الأمر.

فيا معلم القرآن اعلم أن صلاحك صلاح طلابك، فأنت مُقتفى الأثر، مُتبع الخطى، فما تقوم به وتراه حسناً فهو عند طلابك حسن، وما تتركه وتراه قبيحاً فهو عند طلابك كذلك، قال عتبة بن أبي سفيان – رحمه الله تعالى – لمؤدب ولده: “ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاح نفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك؛ فالحسن عندهم ما استحسنته، والقبيح ما استقبحته”5.

اللهم بارك في حملة كتابك، ومعلمي قرآنك، اللهم كما أنعمت عليهم القرآن فأنعم عليهم بخيري الدنيا والآخرة، اللهم اهدهم وسددهم، واجعلهم أئمة يقتدى بهم، وارفع درجاتهم في عليين، وصل اللهم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 رواه الترمذي (2609)، وقال الألباني: حسن لغيره، انظر صحيح الترغيب والترهيب (1/19).

2 رواه مسلم (4831).

3 رواه أحمد (234601)، وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح، تعليق الأرنؤوط على المسند (6/91).

4 جميع الأقوال منقولة من إحياء علوم الدين (1/64).

5 محاضرات الأدباء (1/75).