شعارنا المفقود

شعارنا المفقود

 

الحمد لله الحليم السلام، أمن عباده المتقين السِلام، وبوأهم نزلاً في دار السلام، ونادهم فيها بتحية الإسلام فقال سبحانه: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد: 24]، والصلاة والسلام على أشرف الأنام, وأزكى من صلى وقام وقال فاه السلام.

أما بعد:

أيها الحبيب: قد تلامس سمعك، وتقرع أذنك هذه العبارات (صباح الخير، مرحباً، مساء الخير، أهلا وسهلاً، جود مورنيج …) نعم أنها تحايا منتشرة تتلون مع كل لسان، تتمرغ في كل لغة، تتقاذفها أفواه الشعوب.

 واسمح لي أيها الموفق أن أدلك على تحية خالدة خاصة بنا، ذات عزة وكبرياء، جاءت بها شريعتنا الغراء، دونت في أقدس الكتب وأطهرها, وحث عليها صاحب خير الرسالات وأشرفها، تشيع في مجتمعاتنا المحبة، وتزرع في القلوب الوداد، وتنثر على أصحابها زهور الأجر والثواب.

اختارها الله لأوليائه وساماً، واصطفاها لأهل جنته كلاماً ف-{تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}[إبراهيم: 23]، إنها تحية ملة الإسلام – السلام عليكم ورحمة الله وبركاته-.

شعارنا المفقود وحبلنا المعقود:

إن تأملاً يسيراً في حالنا مع السلام يوقعنا في أسى؛ لحجم هذا الجفاء الذي غلف مشاعرنا تجاه بعضنا البعض, فلم نعد نستشعر أهميته في حياتنا، وأنه من صميم ديننا, ويكفي لمعرفة منزلته ومكانته قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟..)) لا شك أننا جميعاً نعرفه قال: ((..أفشوا السلام بينكم))1 فما معنى الإفشاء إذن؟

معناه يتضح في قوله صلى الله عليه وسلم عندما سأله رجل: أي الإسلام خير؟ قال: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف))2.

ونظراً لمكانة السلام في الإسلام، ولعظم شأنه في التأليف بين القلوب؛ كان جديراً أن نقف معه وقفات نجلي أحكامه، ونبين فضائله وآدابه.

معنى السلام:

قال ابن الأَعرابي السَّلامة العافية والسَّلامُ في الأَصل السَّلامةُ يقال: سَلِمَ يَسْلَمُ سَلاماً سَلامةً ومنه قيل للجنة دار السَّلام؛ لأَنها دار السَّلام من الآفاتِ3، والسَّلامُ والسَّلامَةُ البراءة، تَسَلَّمَ منه تَبَرَّا، وقيل: هو اسمٌ من أسماءِ الله، وقيل السَّلامُ هو الله فإذا قيل السَّلامُ عليكم فكأنه يقول: اللهُ فوقك.

قال ابن حجر: نشر السلام بين الناس ليحيوا سنته، وأخرج البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن ابن عمر: إذا سلمت فاسمع فإنها تحية من عند الله، قال النووي: أقله أن يرفع صوته بحيث يسمع المسلم عليه، فإن لم يسمعه لم يكن آتياً بالسنة4.

فضائله وخصائصه:

1- أنه من خير أمور الإسلام، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما  أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال  ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف))5.

2- أنه من أسباب المودة والمحبة بين المسلمين، والتي هي من أسباب دخول الجنة قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))6.

3- أن كل جملة منه بعشر حسنات، وهو ثلاث جمل، فلمن جاء به كاملاً ثلاثون حسنة فعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فرد عليه، ثم جلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عشر))، ثم جاء رجل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه، ثم جلس، فقال: ((عشرون))، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه، وجلس فقال: ((ثلاثون))7.

4- أنه تحية الملائكة لآدم في الملأ الأعلى، وتحية ذريته من بعده؛ لما في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله آدم طوله ستون ذراعًا، فلما خلقه قال له: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة فاستمع ما يجيبونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله))8.

5- والسلام تحية الله لأوليائه وأصفيائه؛ لما جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: ((هذه خديجة قد أتتك بطعام، فاقرأ عليها السلام من ربها، ومني، وبشرها ببيت في الجنة))، وعند البخاري أيضًا قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعائشة: ((هذا جبريل يقرأ عليك السلام))، فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ترى ما لا أرى تريد النبي صلى الله عليه وسلم".9

6- والسلام من مفاتيح دخول الجنة فعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قِبَله، وقيل: قد قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: ((أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام))10.

7- والسلام تحية الملائكة للمؤمنين إذا استقروا في دار السلام كما في قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرتُمْ فَنِعمَ عُقْبَى الدَّار}[الرعد: 23-24].

حكم الابتداء بالسلام والرد على التحية:

ابتداء السلام سنة، وردُّه واجب؛ فإن كان المسلِّم جماعة فهو سنة كفاية في حقهم إذا سلم بعضهم حصلت سنة السلام في حق جميعهم، فإن كان المُسَلَّم عليه واحداً تعين عليه الرد، وإن كانوا جماعة كان الرد فرض كفاية في حقهم، فإذا رد واحد منهم سقط الحرج عن الباقين، والأفضل أن يبتدئ الجميع بالسلام، وأن يرد الجميع.

ونقل ابن عبد البر وغيره إجماع المسلمين على أن ابتداء السلام سنة، وردُّه فرض11.

أقل السلام:

أن يقول: السلام عليكم، فإن كان المسلم عليه واحداً فأقله: السلام عليك، والأفضل أن يقول: السلام عليكم ليتناوله وملكيه، وأكمل منه أن يزيد ورحمة الله، وأيضاً وبركاته، ولو قال: سلام عليكم أجزأه، واستدل العلماء لزيادة ورحمة الله وبركاته، بقوله – تعالى- إخباراً عن سلام الملائكة بعد ذكر السلام: {قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (73) سورة هود، وبقول المسلمين كلهم في التشهد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.

صفة رد السلام:

الأكمل أن يقول: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته" فيأتي بالواو، فلو حذفها جاز، وكان تاركاً للأفضل، ولو اقتصر على: "وعليكم السلام"، أو على "عليكم السلام"؛ أجزأه، ولو اقتصر على "عليكم" لم يجزه بلا خلاف ولو قال: "وعليكم" بالواو، وأقل السلام ابتداء ورداً أن يسمع صاحبه، ولايجزئه دون ذلك، ويشترط كون الرد على الفور، ولو أتاه سلام من غائب مع رسول أو في ورقة وجب الرد على الفور12.

قال العلامة بدر الدين العيني: "إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم، أو ردوا عليه بمثل ما سلم، فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة".13

ومما يعتبر جواباً غير سائغ شرعاً أن يرد بقوله: أهلاً ومرحباً، أو نحوها، مكتفياً بها، وذلك لأنها ليست بجواب شرعي للسلام، ولأنها أنقص من السلام بكثير.

التلفظ بالسلام:

السنة في السلام والجواب الجهر، لأن السلام هو التلفظ بقولك: "السلام عليكم"، والإشارة باليد وغيرها لا تعتبر سلاماً، وأما الجواب فإنه يجهر به حتى يسمع المسلم، لأنه إن لم يسمعه فإنه لم يجبه إلا أن يكون عذر يمنع سماعه.

من أحكام السلام وآدابه:

1- إفشاؤه وإظهاره، وإعلانه بين الناس؛ حتى يكون شعاراً ظاهراً بين المسلمين، لا يخص به فئة دون أخرى، أو كبيراً دون صغير، ولا من يعرف دون من لا يعرف، وتقدم حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وتقدم أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفشوا السلام بينكم))، وقال عمار بن ياسر رضي الله عنهما: "ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسه، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار"14، ومما ورد في ذم من ترك التسليم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أبخل الناس من بخل بالسلام))15.

2- الأفضل في الابتداء بالسلام أن يسلم الصغير على الكبير، والماشي على الجالس، والراكب على الماشي، والقليل على الكثير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير"16.

3- من السنة إعادة السلام إذا افترق الشخصان ثم تقابلا بدخول أو خروج، أو حال بينهما حائل ثم تقابلا ونحو ذلك، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجرة ثم لقيه فليسلم عليه أيضاً))17، وقال أنس رضي الله عنه: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتماشون، فإذا استقبلتهم شجرة أو أكمة فتفرقوا يميناً وشمالاً ثم التقوا من ورائها سلم بعضهم على بعض"18.

4- السلام على المبتدع المجاهر الذي أقيمت عليه الحجة وهو مصرٌّ على بدعته الكبيرة، ولم يتب منها؛ فيرى الإمام البخاري والإمام النووي وغيرهما من العلماء أنه لا يسلم عليه حتى يتوب عن بدعته.

5- حكم السلام على الكافر، ورد سلامه إذا سلم: السلام تحية للمؤمنين خاصة، فلا يجوز إلقاؤها على غيرهم قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه))19.

أما إن حضر موضعاً فيه أخلاط من المسلمين والكافرين فيسلم ويقصد المسلمين، ففي حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، فسلم عليهم"20.

وإذا سلم الكافر فإنه يرد عليه بمثل ما روى أنس رضي الله عنه أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أهل الكتاب يسلمون علينا فكيف نرد عليهم؟ قال: ((قولوا وعليكم، ولا يزيد على ذلك))21.

6- السلام على النساء: يجوز السلام على النساء المحارم، أما غيرهن: فيجوز إذا أمنت الفتنة بهن وعليهن، وهذا يختلف باختلاف النساء، والأحوال، والمواضع، فليست الشابة كالعجوز، ولا من دخل بيته فوجد فيه نسوة فسلم عليهن كمن مر بنساء لا يعرفهن في الطريق، وأما المصافحة للنساء الأجانب فلا يجوز مطلقاً.

أيها المبارك:

السلام باب واسع يمكن به الدخول إلى قلوب الآخرين، به يأنس الخائف، ويطمئن المفزوع، ويقترب البعيد، وتبنى المودة، ويخزى الشيطان، فهلا طرقنا بابه، وتشبثنا بلجامه، ولا خير في أمة تترك هدي دينها، وتتخلى عن سبيله.

نسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينه ردا ًجميلاً، إنه نعم المولى ونعم النصير.


1 رواه مسلم برقم (54).

2 رواه البخاري برقم (11) ومسلم برقم (56).

3 الصحاح (6/2455).

4 فتح الباري لاين حجر (11/18).

5 سبق تخريجه.

6 سبق تخريجه.

7 رواه أبو داود برقم (4521) وقال الألباني حديث حسن.

8 رواه البخاري برقم (5759) ومسلم برقم (5075).

9 البخاري برقم: (3536).

10 رواه ابن ماجه برقم (1324) والترمذي برقم (2409).

11 تحفة الأحوذي (7/ 390).

12 شرح مسلم للنووي (14/184).

13 عمدة القاري (22/232).

14 ذكره البخاري عنواناً لباب السلام.

15 رواه الطبراني برقم (3392) وصححه الألباني.

16 رواه البخاري برقم (5877) .

17 رواه أبو داود برقم (5200)  وصححه الألباني.

18 شعب الإيمان (6/ 451) رقم (8861).

19 رواه مسلم برقم (2167).

20 البخاري برقم (5899) ومسلم برقم (1798).

21 رواه مسلم برقم ( 2163).