كيف تنجو السفينة من الغرق؟

كيف تنجو السفينة من الغرق؟

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فإن هذا المجتمع شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بسفينة، وفي هذه السفينة قوم منهم من ركب في الدور الأعلى ومنهم من كان في الدور الأسفل، فكان الذين في الدور الأسفل كلما أرادوا أن يشربوا ماءًا مروا على من فوقهم، ولكثرة تردادهم عليهم، قال بعضهم لبعض لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، وذلك بكثرة مرورنا عليهم، قال المعصوم عليه الصلاة والسلام: ((فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا))1. وعليه فإنه لا نجاة للمجتمع إلا بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لا يغرق المجتمع في بحار وأوحال الذنوب والمعاصي؛ فإنه إن وقع ذلك ولم يوجد من يحتسب فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإن سفينة المجتمع مهددة بالغرق وهلاك من فيها جميعاً.

قال العلماء: ففي هذا الحديث استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالفتنة إذا عمت هلك الكل. وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها2.

ولذلك فإن الناس إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر نجو من العقوبة لما جاء في نهاية الحديث: (نَجَوْا وَنَجَوْا) أي كل من الآخذين والمأخوذين، وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه، وإلا هلك العاصي بالمعصية، والساكت بالرضا بها3.

وقال المباركفوري: المعنى أنه كذلك إن منع الناس الفاسق عن الفسق نجا ونجوا من عذاب الله تعالى، وإن تركوه على فعل المعصية ولم يقيموا عليه الحد، حل بهم العذاب وهلكوا بشؤمه4.

وليس هناك حجة لمن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محتجاً بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم}[المائدة: 105]. وذلك لأنه جاء فيها: {إِذَا اهتديتم} ومن ترك الأمر بالمعروف لم يهتد.

ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد أن الله تعالى أقسم أنه في خسر في قوله تعالى: {والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [سورة العصر]. فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل.

وقد دلت الآيات كقوله تعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25]، والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، عمهم الله بعذاب من عنده5.

وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً مرعوباً يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج، مثل هذه)) وحلق بأصبعيه الإبهام، والتي تليها. فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثر الخبث)6.

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} [المائدة: 105]. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يده، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)7.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، أنه كان الرجل يَلْقَى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ذلك بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}[المائدة: 78-81]. ثم قال: كلا، والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم ليلعننكم كما لعنهم))8. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون قال فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئا فقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا))9.

والنصوص في هذا الباب كثيرة جداً، ولكن حسبنا التذكير بأهمية هذا الأمر، وضرورة القيام به، والتحذير من التساهل فيه؛ فإن بتركه الهلاك المحقق.

والله أسأل أن يجيرنا من مضلات الفتن، وأن يجعلنا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.


1 رواه البخاري.

2 انظر: تفسير القرطبي (7/343).

3 فتح الباري شرح صحيح البخاري (5/296). لابن حجر. دار المعرفة- بيروت (1379).

4 تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (6/329). للمباركفوري. دار الكتب العلمية- بيروت.

5  راجع: أضواء البيان.

6  صحيح البخاري (3168)، وصحيح مسلم (2880).

7  رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وصححه الألباني.

8  رواه أبو داود و الترمذي وقال: حسن غريب. وضعفه الألباني في مواضع عديدة من كتبه.

9  رواه الترمذي، وضعفه الألباني.