السلف وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم

صفحة جديدة 1

السلف وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

أيها الناس: فإن سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار، ويصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، وهو سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته، وهو سبحانه يفضل رسله بعضهم على بعض، ويرفع بعضهم درجات، وهو سبحانه يفاوت بينهم في كثرة أتباعهم وقلتهم، وقوة هؤلاء الأتباع وضعفهم، وقد عرضت الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد قال عليه الصلاة والسلام: ((حتى رفع لي سواد عظيم، قلت: ما هذا؟ أمتي هذه؟ قيل: هذا موسى وقومه، قيل: انظر إلى الأفق، فإذا سواد يملأ الأفق ثم قيل لي: انظر ها هنا وها هنا في آفاق السماء فإذا سواد قد ملأ الأفق قيل: هذه أمتك))1.

أيها المؤمنون: إن أفضل الناس في كل أمة من الأمم هم من صحبوا رسولهم مؤمنين به، مدافعين عنه، داعين إلى دينه؛ فمن صحب موسى مؤمنا به؛ مدافعا عنه؛ فهو أفضل الناس في تلك الفترة، وكذلك من صحب عيسى مؤمنا به، مدافعا عنه، فهو أفضل الناس في تلك الفترة، ومن صحب محمدا عليه الصلاة والسلام فهو أفضل الناس في تلك الفترة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الناس على الإطلاق بعد أنبياء الله ورسله.

ذلك أنهم صحبوا أفضل نبي على الطلاق، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا أفضل الأصحاب على الإطلاق، فهم خير هذه الأمة، وهم السابقون إلى الإيمان والهجرة، والجهاد والنصرة؛ صدّقوا حين كثر المكذبون، واتبعوا إذ قل المتبعون، وتحملوا في سبيل ذلك هجر الأوطان، ومفارقة الأهل والولدان، ومعاداة العشيرة والخلان، ومهما عمل من بعدهم فلن يبلغوا مبلغهم، ولن يحوزوا فضلهم، أو يدركوا سبقهم؛ ولكنهم يلحقون بهم في الفوز والجنة، لا في الفضل والدرجة.

وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه))2.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: (لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره)3.

صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم إيمانا ويقينا، وأكثرهم تضحية وبذلاً، فاستحقوا ما نالوا بفضل الله تعالى عليهم، ورحمته بهم، واصطفائه لهم؛ ليكونوا أحباب خاتم رسله عليه الصلاة والسلام، وأخبارهم غزيرة في تصديقهم ومحبتهم لرسول الله، وتوقيرهم وتعظيمهم إياه، ووفائهم وفدائهم له عليه الصلاة والسلام، ودفاعهم عنه، وتقديمه على كل محبوب سوى الله تعالى.

ففي محبتهم له صلى الله عليه وسلم يجيب علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن سؤال نصه: "كيف كان حبّكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟" فيجيب بقوله: "كان والله أحبّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ"4.

وهذا عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول: "ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه"5.

هذه المحبة تجسدت واقعا عمليا، فليست مجرد دعوى ليس عليها برهان، وليست زعما كاذبا، أو ظنا مشكوكا فيه؛ بل كانت محبة صادقة، حيث كانوا إذ جدَّ الجد، ودارت رحى الحرب، وحضرت المنايا ميدان المعركة تخطف من أمرت به؛ كانت أجساد الصحابة رضي الله عنهم فداء له عليه الصلاة والسلام، وسيوفهم أسبق إلى المشركين من أن يصل الأذى إليه صلى الله عليه وسلم، وفي المغازي من بدر إلى حنين مواقف مشهورة، وبطولات مشهودة، تبرهن أن القوم صدقوا في محبتهم له عليه الصلاة والسلام.

وليست تلك المحبة، والتضحيات في سبيلها موقوفة على مواطن العز والانتصار؛ بل ظهرت حتى في حال الهزيمة والانكسار، واسألوا أُحُدا ينبئكم عن ذلك، ويخبركم أن سبعة من الأنصار استماتوا في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم لما أحاط به المشركون حتى قتلوا عن آخرهم، ولهم الجنة، بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة))6. فكان هؤلاء السبعة ممن ردوا المشركين عنه حتى جادوا بأرواحهم فداء له عليه الصلاة والسلام.

وشُلَّت يد طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في أحد من شدة صموده دفاعا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه رجلا راميا شديد النزع كسر يوم أحد قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((انثرها لأبي طلحة))، ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم وأبو طلحة يحميه ويدرأ عنه المشركين بالنبال، فيقول أبو طلحة: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك"7.

ولم تكن محبته عليه الصلاة والسلام حكرا على الرجال من الصحابة رضي الله عنهم، بل كان لنسائهم رضي الله عنهن حظ وافر من تلك المحبة؛ ابتداء بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن حين خيرهن الله تعالى بين البقاء معه عليه الصلاة والسلام والصبر على شظف العيش، وقلة المئونة، وشدة الحال، وبين الفراق والتمتع بطيبات الدنيا، فاخترنه عليه الصلاة والسلام على متاع الدنيا، قالت عائشة رضي الله عنها: فبدأ بي أول امرأة، فقال: إني ذاكر لك أمراً ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك، قالت رضي الله عنها: قد أعلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقك، ثم قال عليه الصلاة والسلام إن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}[الأحزاب: 28، 29] قالت عائشة رضي الله عنها: أفي هذا أستأمر أبوي؟! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خير نساءه فقلن مثل ما قالت عائشة"8.

وللصحابيات الأخريات رضي الله عنهن حظهن من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وتقديمه على الآباء والأزواج والأبناء والإخوان؛ كما فعلت إحدى الأنصاريات لما قتل أقرب الناس إليها في أحد فما سألت إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أنس رضي الله عنه: "لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة، قالوا: قتل محمد حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة فخرجت امرأة من الأنصار متحزمة فاستقبلت بابنها وأبيها وزوجها وأخيها لا أدري أيهم استقبلت به أول، فلما مرت على آخرهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك أخوك زوجك ابنك، وهي تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: أمامك، حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا أبالي إذ سلمت من عطب"9.

وقد كان أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم أسرع الناس امتثالا لما يقول، روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو تركنا هذا الباب للنساء؟))، قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات"10.

أيها الناس: ومن تعظيم الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتوقيرهم له: أنهم يلتزمون الأدب بحضرته، ولا يتكلمون أو يفعلون الفعل إلا بإذنه؛ حتى أنه بلغ من أدبهم معه عليه الصلاة والسلام أن أحد الرواة يُشبِّه هدوءهم، وسكينتهم بمن على رؤوسهم الطير، يقول البراء بن عازب رضي الله عنه يصف حضورهم جنازة يجهز لحدها: "فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، وكأن على رءوسنا الطير"11.

ولم تكن سكينتهم تلك حال حضور الجنازة فحسب، أو لمكان القبر من القلب؛ إذ كان ذلك حالهم حتى في مجلسهم معه أثناء تحديثهم وتعليمهم أمور دينهم، قال أسامة بن شريك رضي الله عنه: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسنا الرَخَم، ما يتكلم منا متكلم إذ جاءه ناس من الأعراب، فقالوا: يا رسول الله أفتنا في كذا، أفتنا في كذا"12.

وكان الواحد منهم إذا حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذته هيبة عظيمة، حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إجلالا لحديثه، كما روى عمرو بن ميمون فقال: ما أخطأني عشية خميس إلا آتي عبد الله بن مسعود فيها، فما سمعته بشيء قط يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ذات عشية، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نكس فرفع رأسه، فرأيته محلول أزرار قميصه، قد انتفخت أوداجه، واغرورقت عيناه، فقال: أو فوق ذلك أو دون ذلك أو قريبا من ذلك أو شبه ذلك"13.

وبلغ من أدبهم معه أنهم يقرعون بابه إن أرادوه بالأظافير، وما كانوا يرفعون أصواتهم بحضرته عليه الصلاة والسلام، ومن كان جهوري الصوت منهم جاهد نفسه على خفض صوته بعد نزول آية الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}[الحجرات: 2].

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: "وهذه الآية الكريمة علم الله فيها المؤمنين أن يعظموا النبي صلى الله عليه وسلم، ويحترموه ويوقروه، فنهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته، وعن أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، أي ينادونه باسمه: يا محمد، يا أحمد، كما ينادي بعضهم بعضا. وإنما أمروا أن يخاطبوه خطابا يليق بمقامه ليس كخطاب بعضهم لبعض، كأن يقولوا: يا نبي الله، أو يا رسول الله، ونحو ذلك"14.

بعد أن نزلت هذه الآية كان عمر بن الخطاب؛ كما يقول ابن الزبير رضي الله عنهما: "فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه خشية حبوط العمل"15.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: "يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله وهو من أهل النار، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا، فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب إليه، فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة"16.

أيها المؤمنون: لقد كان الصحابة رضي الله عنهم مأذونا لهم في مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يزيد على ثلاث مرات، ولربما وُفق بعضهم في إصابة الحق كما أصابه عمر رضي الله عنه غير مرة؛ ومع هذا الإذن في المراجعة لهم فإنه كان أشدّ شيء على الواحد منهم أن يراجعه في أمر ثم يكون الحق بخلافه، وقد وقع ذلك لعمر رضي الله عنه الذي كان يصيب الحق كثيراً؛ إذ راجع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فكان الحق على خلاف ما أراد، يقول عمر رضي الله عنه: "فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري))17، وفي رواية: يقول عمر رضي الله عنه: "ما زلت أصوم وأتصدق وأصلى وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرا"18.

هذا -يا عباد الله- غيض من فيض محبة وتوقير وتعظيم صحابة رسول الله؛ لخير خلق الله عليه الصلاة والسلام؛ ولذا شرفوا بصحبته، وعسى أن نأخذ العبر من سيرتهم، ونستن بسنتهم، ونقتفي أثرهم، ونبرأ إلى الله تعالى ممن تبرأ منهم.

قلت ما سمعتم واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى. أما بعد:

أيها الناس: ذكرنا في الخطبة الأولى بعضا من الآثار والقصص والأخبار في تعظيم وتوقير الصحابة لرسول الله، ومحبتهم إياها، ولا ننسى أن نذكر في المقام بعضا من أخبار التابعين وتابعيهم، في تعظيمهم وتوقيرهم له عليه الصلاة والسلام؛ فهذا أحدهم يبكي إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده محبة له وتوقيرا وإجلالا، سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى: "متى سمعت من أيوب السختياني؟ فقال: حج حجتين، فكنت أرمقه ولا أسمع منه، غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت، وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه"19.

وهذا الإجلال للنبي صلى الله عليه وسلم سجية عند السلف الصالح؛ لأنهم قد عرفوا قدره ومنزلته، وعلموا ما له من الفضل عليهم، كما حدث بذلك الإمام مالك رحمه الله تعالى عن جماعة من شيوخه رأى من حالهم ما رأى عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، روى مصعب بن عبد الله رحمه الله تعالى فقال: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه فقيل له يوما في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمدَ بنَ المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة20. ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيُنظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه؛ هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد رأيت الزهري وكان لمن أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته، ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس ويتركوه"21.

وهذا الحسن البصري رحمه الله كان يبكي إذا حدث بحديث الجذع الذي بكى لما فارقه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: "يا عباد الله، الخشبة تحنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ شوقا إليه لمكانه من الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه"22.

ولم يكن توقيرهم له عليه الصلاة والسلام في حياته فحسب، بل توقيرهم له في حياته وبعد موته صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يرفعون أصواتهم في مسجده إجلالاً وتوقيراً له عليه الصلاة والسلام؛ روى السائب بن يزيد رحمه الله قال: "كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم!"23.

بل كان بعض التابعين يرى أن رفع الصوت في مجالس الحديث كرفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث حديثه، يقول حماد بن زيد رحمه الله: "كنا عند أيوب السختياني فسمع لغطا، فقال: ما هذا اللغط؟ أما بلغهم أن رفع الصوت عند الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرفع الصوت عليه في حياته"24.

وكان من توقيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يحدثون بحديثه إلا وهم على أحسن حال وهيئة، ويربون أتباعهم على ذلك، قال أبو سلمة الخزاعي رحمه الله: "كان مالك بن أنس إذا أراد أن يخرج ليحدث توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، ولبس قلنسوة، ومشط لحيته، فقيل له في ذلك، فقال: أوقر به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم25.

ويحدث أحمد بن سنان عن مجلس وكيع بن الجراح في التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: لا يُتحدث في مجلسه، ولا يُبرى قلم، ولا يَتبسم، ولا يقوم أحد قائماً، كانوا في مجلسه كأنهم في صلاة فإن أنكر منهم شيئاً انتعل ودخل"26.

ومر الإمام مالك على أبي حازم وهو يحدث فجازه، فقيل له، فقال: لم أجد موضعاً فكرهت أن آخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم"27.

وكان محمد بن سيرين: يتحدث فيضحك فإذا جاء الحديث خشع.

وجاء عن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه سئل عن حديث وهو مضطجع في مرضه فجلس وحدث به، فقيل له: وددت أنك لم تتعن، فقال: كرهت أن أحدث عن رسول الله وأنا مضطجع28. وسئل ابن المبارك رحمه الله تعالى عن حديث وهو يمشى، فقال: ليس هذا من توقير العلم29.

وأخبارهم في ذلك غزيرة، وأحوالهم فيه عجيبة؛ توقيرا للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيما لحديثه، ومن أعجب ما يروى في ذلك ما جاء عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى لما امتحن في فتنة خلق القرآن، وتعاقب ثلاثة من خلفاء بني العباس: المأمون والمعتصم والواثق على امتحانه، وسجنه في ذلك، وهو ثابت على الحق لم يغير ولم يبدل، وحمل رحمه الله إلى مجلس الواثق مقيدا في أغلاله، وناظرهم وهو على تلك الحال فخصمهم، وقطع حجتهم، وأبطل مكيدتهم، وفتح الله تعالى على قلب الخليفة الواثق، فعلم صدق الإمام أحمد، وكونه على الحق، فأمر أن يفك قيده، ففك، وأخذه الإمام أحمد، فنازعه إياه السجان، فأمر الواثق أن يدفع القيد إلى الإمام فدفع إليه، فسأله الواثق عن سبب أخذه، فأخبره أنه ينوي به أن يخاصم به من ظلموه عند الله تعالى يوم القيامة، وقال رحمه الله تعالى: أقول: يا رب سل عبدك هذا لم قيَّدني، وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق، أوجب ذلك علي، وبكى الإمام أحمد، فبكى الواثق، وبكى من في المجلس، ثم سأله الواثق أن يجعله في حلٍ وسعة مما ناله على يديه، فقال له الإمام أحمد رحمه الله: والله يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم؛ إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كنت رجلا من أهله"30.

أيها الإخوة الفضلاء: هكذا كان حال أسلافكم من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وكبار العلماء المتبوعين، والأئمة المهديين؛ توقيرا للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيما لحديثه، وأداء لحقوقه عليهم، وأخبارهم في ذلك يطول المقام لذكرها، وفيما ذكرناه كفاية، وعظة وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

هذا وصلوا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عزَّ من قائل عليما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56].

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تجعلنا لك شاكرين، لك مخبتين، اللهم واجعلنا لنبيك معظمين، وبه مقتدين، ولسنته متبعين، ولحوضه واردين، وعلى شفاعته حائزين، آمين اللهم أمين.

اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.


1 رواه البخاري (5270) ومسلم (323).

2 رواه البخاري(2397) ومسلم (4610).

3 رواه ابن ماجه (158).

4 الشفا للقاضي عياض (2/22).

5 رواه مسلم (121).

6 رواه مسلم (3344).

7 رواه البخاري (3527) ومسلم (3376).

8 رواه البخاري(4413) ومسلم (2696).

9 أخرجه الطبراني في الأوسط، برقم (7499).

10 رواه أبو داود، برقم (391)، وهو في صحيح أبي داود، برقم (483).

11 رواه أبو داود، برقم (2797). وابن ماجه، برقم (1538).

12 رواه ابن حبان في صحيحه، برقم (486). وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان: "إسناده صحيح".

13 رواه الطبراني في الكبير، برقم (8636).

14 أضواء البيان (7/401).

15 رواه البخاري (4467).

16 رواه البخاري (3344، و4468).

17 رواه البخاري (2529).

18 رواه أحمد (18153). وقال تعليق شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "إسناده حسن".

19 خلاصة الشفا في تعريف حقوق المصطفى (1/96) للقاضي عياض بن موسى اليحصبي.

20 ينظر: المصدر السابق (1/96- 97).

21 الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/43).

22 مسند الجعد (1/466).

23 رواه البخاري (450).

24 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب رقم (1/195 رقم 332).

25 الموطأ (1/28).

26 سير أعلام النبلاء (9/154).

27 حلية الأولياء (6/318).

28 ينظر : الشفا (2/44).

29 مشاهير أعلام المسلمين (42).

30 الجوهرة في نسب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه العشرة (178).