الاستهزاء بالدين وأهله

الاستهزاء بالدين وأهله

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..

أما بعد:

أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.

أيها المؤمنون: لقد انتشر في أوساط كثير منا أمراض قاتلة ومعدية، وليس المقصود بالأمراض المعدية مرض السرطان، أو مرض الجمرة الخبيثة، وإنما هي أمراض تمس دينهم وعقيدتهم، وعلاقتهم بالله، ومن أخطر هذه الأمراض " الاستهزاء بالدين وأهله" ؛ فإنه والله الذي لا إله إلا هو عمل شنيع، وداء قاتل -والعياذ بالله-.

إن الاستهزاء بالدين وأهله خلق ذميم، بل إنه صفة من صفات المنافقين، وقد توعد الله المنافقين وعيداً شديداً، وأرداهم في الدرك الأسفل من النار، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء: 145]. وأخبر أنه سيخرج ما في قلوبهم من الاستهزاء والكيد بالمسلين، فقال عز وجل: {قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}[التوبة: 64] وفي غزوة تبوك يسطر لنا التاريخ قصتهم، واستهزاءهم بحفاظ كتاب الله من الصحابة، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل: كذبت، ولكنك منافق لأخبرن رسول الله. فبلغ ذلك رسول الله، ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: وأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله تنكبه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}[التوبة: 65-66].

فدلت القصة ونزول هذه الآية دلالة صريحة على أن الاستهزاء بدين الله وشرعه وأهله كفر مخرج من الملة، سواء كان المستهزئ جاداً أو هازلاً أو مازحاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله جاداً أو هازلاً فقد كفر1. فالاستخفاف أو الاستهزاء بأي شعيرة من شعائر الدين، أو بأي آية من آيات القرآن، أو بالرسول، أو الجنة أو النار، أو الملائكة، أو الأنبياء، يعد كفراً أكبر مخرج من الملة سواء كان الهازئ جاداً أو مازحاً، قال النووي رحمه الله: ولو قال وهو يتعاطى قدح الخمر، أو يقدم على الزنا: باسم الله استخفافاً باسم الله تعالى كفر2. وقد عد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الاستهزاء ناقضاً من نواقض الإسلام العشرة3.

أيها المؤمنون: أما ما يقع فيه بعض الناس من الاستهزاء بالمتدينين في قضايا خلَقية أو خُلُقية؛ كأن يستهزئ بشكله، أو بأنفه، أو ما أشبه ذلك، فإن هذا كبيرة من كبائر الذنوب، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الحجرات: 11].

وأما إن استهزأ به لأنه عمل بسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم في ملبسه أو لحيته أو أي عمل على السنة، فهذا قد يوصله إلى الكفر -والعياذ بالله-؛ ولطالما سمعنا تلك الكلمة القبيحة "لو كان في اللحية خير ما نبتت في الفَرْج!". فسبحان الله!! يقول الله: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ}[الانفطار: 6-8]. وهذا يسخر ويهزأ بخلق الله، فيعيب الصانع وصناعته، يستهزئ باللحية وهي سنة جميع الأنبياء، ومن سنة نبينا محمد، فقد أمر بها قائلاً: "خالفوا المشركين: أحفوا الشوارب وأوفروا اللحى"4. وهي علامة وميزة ميز بها الرجل. وهناك أمثلة كثيرة جداً يطول حصرها. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا.

عباد الله قلت ما سمعتم، واستغفروا الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

أيها الناس: إن عقوبة الله للمستهزئين حالَّة لا محالة، وغضبه واقع عليهم لا مفر لهم  منه، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[المجادلة: 20-21]. وإليكم -يا عباد الله- بعض الشواهد والأمثلة على إهلاك الله لمن استهزأ بأنبيائه ورسله، وعباده المؤمنين.. فهاهم قوم نوح عليه السلام لما سخروا من نوح ومن صناعته للسفينة التي أمره الله بصناعتها، أهلكهم وجعلهم عبرة للآخرين قال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}[هود: 38-39]. فأهلكهم الله بالغرق {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ}[الأعراف: 64]. وقصته مع قومه سطرها القرآن الكريم، وكيف أهلك الله من كفر به، ونجَّى من آمن به واتبعه، بل وفي القرآن سورة كاملة باسمه. وكذلك قوم شعيب لما سخروا منه ومن صلاته، فقالوا له كما أخبر الله عنهم: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}[هود: 87]. فكانت النتيجة أن أهلكهم الله ونجاه {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف: 91-92]. وكذلك أعداء نبينا محمد الذين استهزؤوا به، وسخروا منه، وكذبوه، وآذوه؛ فكانت النهاية أن أهلكهم الله، وقتلهم شر قتلة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – نور الله ضريحه – عن الذين استهزؤوء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين: "والقصة في إهلاك الله واحداً واحداً من هؤلاء المستهزئين معروفة، فقد ذكرها أهل السير والتفاسير، وهم على ما قيل: نفر من رؤوس قريش مثل: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسودان ابن عبد المطلب، وابن عبد يغوث، والحارث بن قيس … وكسرى مزق كتاب رسول الله واستهزأ به فقتله الله بعد قليل؛ ومزق ملكه كل ممزق، ولم يبق للأكاسرة ملك، وهذا -والله أعلم- تحقيق لقوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}[الكوثر: 3].  فكل من شنأه وأبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره… ومن الكلام السائر: " لحوم العلماء مسمومة " فكيف بلحوم الأنبياء -عليهم السلام- ؟!. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى-: ((من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة))5 فكيف بمن عادى الأنبياء، ومن حارب الله تعالى حُورب، وإذا استقصيت قصص الأنبياء المذكورة في القرآن تجد أممهم إنما أهلكوا حين آذوا الأنبياء وقابلوهم بقبيح القول أو العمل، وهكذا بنو إسرائيل إنما ضربت عليهم الذلة، وباءوا بغضب من الله، ولم يكن لهم نصير لقتلهم الأنبياء بغير حق مضموماً إلى كفرهم كما ذكر الله ذلك في كتابه، ولعلك لا تجد أحداً آذى نبياً من الأنبياء ثم لم يتب إلا ولا بد أن تصيبه قارعة"6. والأمثلة في إهلاك الله للظالمين المستهزئين بأنبيائهم وعلمائهم وصالحيهم كثيرة جداً. نسأل الله أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا جميعا كل سوء ومكروه. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


1 الصارم المسلول صـ (31) ط: دار الكتب العلمية بيروت – لبنان-.

2 انظر روضة الطالبين (7/287) ط: دار الكتب العلمية بيروت – لبنان.

3 انظر الجامع الفريد صـ (283) .

4 رواه البخاري ومسلم.

5 رواه البخاري (6137).

6 الصارم المسلول (164 – 165) ط: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان. و الحديث أخرجه البخاري.