ورجل قلبه معلق بالمساجد

ورجل قلبه معلق بالمساجد

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سبعة يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين))1.

يخبرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث أن يوم القيامة وهو يوم العرض على الله، يوم تدنو الشمس من الرؤوس، ويبلغ الكرب من النفوس مبلغاً لا يعلمه إلا الله، فلا ظل ولا شجر، ولا شيء يقي من حر الشمس الدانية من الرؤوس، حينها يتنزل الله نزولاً يليق بجلاله على عرشه، ويحمل عرشه ثمانية، وهو مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، فإذا تنزّل نادى بصوت يسمعه من قرُب كما يسمعه من بعد ويقول عز وجل كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري: ((أنا الملك أين ملوك الأرض؟… ))2، في ذلك الموقف العظيم الذي يجتمع فيه الأولون والآخرون لا ظل إلا ظل عرش الله؛ هناك مجموعة من الناس اختصهم الله بالاستظلال بظل العرش فمن هم هؤلاء؟

هؤلاء هم من ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق وهم سبعة أصناف، ومنهم رجل قلبه معلق بالمساجد, المساجد التي هي بيوت الله، ومكان آداء العبادات المفروضة، وميدان العلم والتعلم، لذا كان جزاء القلب المتعلق بالمسجد، البعيد عن رؤية المنكرات، والقريب من الله تعالى, أن يصفو، وتنجلي همومه وأكداره، ويعيش في روضة من رياض الجنة، وبذلك تكفر سيئاته، وتكثر حسناته وقد قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}[النور: 48-50].

وهذا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما تقول عائشة رضي لله عنها: لما سئلت: ما كان النبي صلى الله عليه و سلم يصنع في البيت؟ قالت كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع الآذان خرج3.

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((ورجل قلبه معلق بالمساجد)) أي شديد الحب لها، والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دوام القعود في المسجد4، قال ابن حجر في فتح الباري: "ظاهره أنه من التعليق كأنه شبه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلاً إشارة إلى طول الملازمة بقلبه، وإن كان جسده خارجاً عنه، ويدل عليه رواية الجوزقي: كأنما قلبه في المسجد"5.

فلما آثر طاعة الله تعالى، وغلب عليه حبها؛ صار قلبه معلقاً بها، يحبها ويألفها، لأنه يجد فيها حلاوة القربة، ولذة العبادة، وأنس الطاعة، وينشرح فيها صدره، وتطيب نفسه، وتقرّ عينه، فهو لا يحب الخروج منها، وإذا خرج تعلق قلبه بها حتى يعود إليها, وهذا إنما يحصل لمن ملك نفسه، وقادها إلى طاعة الله جل وعلا فانقادت له، فلا يقصر نفسه على محبة بقاع العبادة إلا من خالف هواه، وقدم عليه محبة مولاه جل في علاه، أما من غلبته نفسه الأمّارة بالسوء فقلبه معلق بالجلوس في الطرقات، والمشي في الأسواق، محب لمواضع اللهو واللعب، وأماكن التجارة واكتساب الأموال.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن تعلق قلبه بالمساجد، وعمرها حساً ومعنى، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه البخاري (1357)، ومسلم (1031).

2 رواه البخاري (4534)، ومسلم (2787).

3 رواه البخاري (5048).

4 صحيح مسلم بشرح النووي (8/122).

5 فتح الباري (2/184).