وأتممت عليكم نعمتي

وأتممت عليكم نعمتي

 

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين .. أما بعد:

فإن نعم الله عز وجل على بني آدم كثيرة، لا تحصى ولا تعد، يقول سبحانه وتعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}[النحل: 18]، ومن أجلّ هذه النعم وأعظمها؛ نعمة الإسلام، النعمة التي أنعم الله بها على المسلمين، وسلبت على كثير من العالمين، النعمة التي يدخلون بها الجنة، وينجون من النار، النعمة التي سماها الله تعالى نعمة في كتابه الكريم إذ يقول: {..الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}[المائدة: 3]، عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} قال عمر قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة"1، نظر اليهودي إلى هذه الآية وما فيه من امتنان الله تعالى على عباده المؤمنين بنعمة الإسلام، وأنه سبحانه رضي لهم الإسلام ديناً، فكان منه ما كان. أليس أهل الإسلام أولى بالتفكر في هذه النعمة، وأحرى أن يقفوا جمالياتها؟ وهذا ما فعله بشر بن الحارث رحمه الله تعالى، فعن زبدة -أخت بشر بن الحارث-، قالت: دخل بشر علي ليلة من الليالي، فوضع إحدى رجليه داخل الدار، والأخرى خارج الدار، وبقي كذلك يتفكر حتى أصبح، فلما أصبح، قلت: له في ماذا تفكرت طول الليلة؟، قال: تفكرت في بشر النصراني، وبشر اليهودي وبشر المجوسي، ونفسي واسمي بشر، فقلت: ما لذي سبق منك حتى خصك؛ فتفكرت في تفضله علي، وحمدته على أن جعلني من خاصته، وألبسني لباس أحبائه"2.

فما اسمك؟ سعيد، صالح، فلان..فكم ممن يحملون نفس اسمك تجدهم على غير الإسلام، أو مسلمين في الظاهر مع عدم الالتزام بشيء من حقوق الإسلام، كالصلاة وغيرها،..، فلا يستوي المسلم وغير المسلم أبداً، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[القلم: 35]، لا يمكن أن تحصل المساواة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر: 22-23].

إن الدخول في الإسلام أمر لجميع البشرية؛ لكن الهدى هدى الله، فلا دين مقبول عند رب العالمين إلا دين الإسلام، يقول الله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[آل عمران: 83]؛ يقول السعدي رحمه الله: "أي: أيطلب الطالبون ويرغب الراغبون في غير دين الله؛ لا يحسن هذا، ولا يليق؛ لأنه لا أحسن دينا من دين الله، {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}[آل عمران: 83]، أي: الخلق كلهم منقادون بتسخيره، مستسلمون له طوعاً واختياراً؛ وهم المؤمنون المسلمون المنقادون لعبادة ربهم. وكرهاً: وهم سائر الخلق حتى الكافرون؛ مستسلمون لقضائه وقدره؛ لا خروج لهم عنه، ولا امتناع لهم منه، وإليه مرجع الخلائق كلها؛ فيحكم بينهم، ويجازيهم بحكمه الدائر بين الفضل والعدل"3، فيذكر الله عز وجل استنكاره على من أراد أن يبتغي ديناً غير الإسلام، ثم يذكر بعد هذه بآية بياناً عظيماً، يجعل فيه –سبحانه وتعالى- ما هو المقبول من الدين؟ يقول تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران: 85]، "أي: من يدين الله بغير دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده؛ فعمله مردود غير مقبول؛ لأن دين الإسلام هو المتضمن للاستسلام لله؛ إخلاصاً وانقياداً لرسله، فما لم يأت به العبد؛ لم يأت بسبب النجاة من عذاب الله، والفوز بثوابه، وكل دين سواه فباطل"4.

وماذا يريد ذلك الذي أراد أن ينصرف عن دين الإسلام إلى دين غيره، وأراد أن يترك دين الأنبياء إلى دين سواه، ألا ينظر هذا إلى ما جعل الله لهذا الدين من حسن وكمال؛ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}[المائدة: 3]، يقول البيضاوي رحمه الله تعالى: "{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد، {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بالهداية والتوفيق، أو بإكمال الدين، أو بفتح مكة وهدم منار الجاهلية {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} اخترته لكم ديناً من بين الأديان؛ وهو الدين عند الله لا غير)"5.

نعمة الإسلام التي أنعم الله عز وجل على المسلمين؛ هي أعظم نعمة وأجل فضل، وقد سماها ابن القيم رحمه الله تعالى النعمة المطلقة وذلك في كتابة "اجتماع الجيوش الإسلامية"، ثم بين ما الفرق بين (أكملت) و(أتممت)؛ يقول -رحمه الله تعالى-: "والنعمة نعمتان: نعمة مطلقة، ونعمة مقيدة؛ فالنعمة المطلقة هي المتصلة بسعادة الأبد، وهي نعمة الإسلام والسنة؛ وهي التي أمرنا الله -سبحانه وتعالى- أن نسأله في صلواتنا أن يهدينا صراط أهلها، ومن خصهم بها، وجعلهم أهل الرفيق الأعلى؛ حيث يقول تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}[النساء: 69]؛ فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة، وأصحابها –أيضاً- هم المعنيون بقول الله –تعالى- {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}[المائدة: 3]؛ فأضاف الدين إليهم؛ إذ هم المختصون بهذا الدين القيم دون سائر الأمم. والدين تارة يضاف إلى العبد وتارة يضاف إلى الرب فيقال الإسلام دين الله الذي لا يقبل من أحد ديناً سواه؛ ولهذا يقال في الدعاء: اللهم انصر دينك الذي أنزلت من السماء، ونسب الكمال إلى الدين، والتمام إلى النعمة مع إضافتها إليه؛ لأنه هو وليها ومسديها إليهم، وهم محل محض النعمة، قابلين لها؛ ولهذا يقال في الدعاء المأثور للمسلمين: واجعلهم مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها عليهم. وأما الدين فلما كانوا هم القائمين به، الفاعلين له بتوفيق ربهم؛ نسبه إليهم؛ فقال: (أكملت لكم دينكم)، وكان الإكمال في جانب الدين، والتمام في جانب النعمة؛ واللفظتان وإن تقاربتا وتواخيتا؛ فبينهما فرق لطيف يظهر عند التأمل؛ فإن الكمال أخص بالصفات والمعاني، ويطلق على الأعيان والذوات؛ ولكن باعتبار صفاتها وخواصها؛ كما قال النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-: ((كمل من الرجال كثيرٌ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد))6، وقال عمر بن عبد العزيز: إن للإيمان حدوداً وفرائض، وسننا وشرائع؛ فمن استكملها؛ فقد استكمل الإيمان. وأما التمام فيكون في الأعيان والمعاني، ونعمة الله أعيان وأوصاف ومعان، وأما دينه فهو شرعه المتضمن لأمره ونهيه ومحابه؛ فكانت نسبة الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة أحسن، كما كانت إضافة الدين إليهم، والنعمة إليه أحسن؛ والمقصود أن هذه النعمة هي النعمة المطلقة، وهي التي اختصت بالمؤمنين، وإذا قيل: ليس لله على الكافر نعمة -بهذا الاعتبار- فهو صحيح."7.

وكل نعمة تحتاج إلى شكر فما بالك بنعمة مطلقة يمن بها الله تعالى بها على الخلق ولا يشكرونها، ووالله لولا الله ما كنا مسلمين، ولولا فضله علينا ما كنا مؤمنين..

والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا

 أفلا نقابل هذه النعمة بالشكر لله صبح مساء؛ مع أننا لو بتنا كل أعمارنا ساجدين لله، أو راكعين لنوفي له حقاً ما لن نؤدي شكر ولولا القليل مما أنعم به علينا..

سبحان من لو سجدنا بالجباه له *** على لظى الجمر والمحمي من الإبر

لم نبلغ العشر من مقدار نعمته *** ولا العشير ولا عشر من العشر

وليس الشكر فقط باللسان بل يكون باللسان ويكون بالفعال، يقول سبحانه وتعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ: 13]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} أي: وقلنا لهم اعملوا شكراً على ما أنعم به عليكم في الدين والدنيا، وشكراً: مصدر من غير الفعل، أو أنه مفعول له، وعلى التقديرين فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول والنية، كما قال الشاعر:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا

قال أبو عبد الرحمن الحبلي: الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير تعمله لله عز وجل شكر، وأفضل الشكر الحمد" إلى أن قال: "..عن محمد بن كعب القرظي قال: الشكر تقوى الله تعالى والعمل الصالح، وهذا يقال لمن هو متلبس بالفعل، وقد كان آل داود عليهم السلام كذلك؛ قائمين بشكر الله تعالى قولا وعملا" ثم قال: "عن ثابت البناني قال: كان داود عليه السلام قد جزأ على أهله وولده ونسائه الصلاة؛ فكان لا تأتي عليهم ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي؛ فغمرتهم هذه الآية {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}"8.

ولكن للأسف الشديد تجد أن الكثير ممن تسمى بالإسلام لا يملك من الإسلام إلا الاسم، فصار الحال كما قال الله عز وجل: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، بينما الكثير منهم قد شغلتهم أنفسهم ودنياهم عن شكر الله تعال وليس الشكر بالسهل إن لم يوفقك الله سبحانه وتعالى إليه؛ فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يدعوا الله تعالى أن يعينهم على ذكره وشكره؛ فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده، وقال: ((يا معاذ والله إني لأحبك، والله إني لأحبك))، فقال: ((أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك وحسن عبادتك))9.

وشكر الله تعالى يكون بامتثال أمره، واجتناب نهيه، يكون بالتسليم لحكم الله عز وجل، يكون بالاستسلام الكامل والخضوع له جل شأنه، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[النساء: 65]، يقول السعدي رحمه الله تعالى: "ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما شجر بينهم؛ أي: في كل شيء يحصل فيه اختلاف -بخلاف مسائل الإجماع فإنها لا تكون إلا مستندة للكتاب والسنة- ثم لا يكفي هذا التحكيم، حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق، وكونهم يحكمونه على وجه الإغماض، ثم لا يكفي هذا التحكيم، حتى يسلموا لحكمه تسليماً؛ بانشراح صدر، وطمأنينة نفس، وانقياد بالظاهر والباطن، فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان؛ فمن استكمل هذه المراتب وكملها؛ فقد استكمل مراتب الدين كلها، ومن ترك هذا التحكيم المذكور؛ غير ملتزم له فهو كافر، ومن تركه مع التزامه؛ فله حكم أمثاله من العاصين"10.

إنك تعجب كل العجب ممن يدعي الإسلام؛ وهو ما أسلم لرب العالمين كل الإسلام؛ فما يزال مصراً على المنكرات، لا يزال مستمراً على أكل الربا، لا يزال مقيماً على المعاصي والفواحش؛ أين تطبيق ما أمر الله تعالى به من غير جدل ولا نقاش؟ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}[الأحزاب: 36]، يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: "ومعنى الآية: أنه لا يحل لمن يؤمن بالله -إذا قضى الله أمراً- أن يختار من أمر نفسه ما شاء؛ بل يجب عليه أن يذعن للقضاء، ويوقف نفسه تحت ما قضاه الله عليه واختاره له،….ثم توعد سبحانه من لم يذعن لقضاء الله وقدره، فقال: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في أمر من الأمور ومن ذلك: عدم الرضا بالقضاء {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} أي: ضل عن طريق الحق ضلالاً ظاهراً واضحاً لا يخفى"11.

ويقول الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: "لم يكن لمؤمن بالله ورسوله، ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاءً؛ أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما؛ فيعصوهما {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيما أمرا أو نهيا {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} يقول: فقد جار عن قصد السبيل، وسلك غير سبيل الهدى والرشاد"12، ويقول السعدي رحمه الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} أي: لا ينبغي ولا يليق من اتصف بالإيمان إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سخط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما؛ فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} من الأمور، وحتما به وألزما به {أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} أي: الخيار هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة أن الرسول أولى به من نفسه؛ فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجاباً بينه وبين أمر الله ورسوله {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} أي: بيناً؛ لأنه ترك الصراط المستقيم الموصلة إلى كرامة الله إلى غيرها من الطرق الموصلة للعذاب الأليم؛ فذكر أولاً السبب الموجب لعدم معارضة أمر الله ورسوله؛ وهو الإيمان، ثم ذكر المانع من ذلك؛ وهو التخويف بالضلال الدال على العقوبة والنكال"13.

فما أجل نعمة الإسلام، وكم هو مهم أن يدعو الإنسان –دائماً- ربه أن يحيه على الإسلام، ويميته عليه، فكم من الناس لم يعيشوا على الإسلام، وماتوا على الكفر –والعياذ بالله-، وكم من الناس من عاش على الإسلام لكنه –للأسف الشديد- ما مات عليه؛ بل مات وهو يعبد غير الله، أو على دين غير دين الإسلام؛ ولذلك كان الأنبياء حريصون كل الحرص ألا يموتون إلى على الإسلام، وكانت هذه وصايا وصون بها أبناءهم، يقول تعالى عن إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[البقرة: 132]، يقول السعدي رحمه الله: "{يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} أي: اختاره وتخيره لكم رحمةً بكم وإحساناً إليكم؛ فقوموا به واتصفوا بشرائعه، وانصبغوا بأخلاقه، حتى تستمروا على ذلك، فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه؛ لأن من عاش على شيءٍ مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه"14، {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة: 133]، يقول سيد قطب رحمه الله: "إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة، قوي الإيحاء، عميق التأثير..ميت يحتضر. فما هي القضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار؟ ما هو الشاغل الذي يعني خاطره، وهو في سكرات الموت؟ ما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه، ويستوثق منه؟ ما هي التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه، ويحرص على سلامة وصولها إليهم؛ فيسلمها لهم في محضر، يسجل فيه كل التفصيلات؟..إنها العقيدة..هي التركة، وهي الذخر، وهي القضية الكبرى، وهي الشغل الشاغل، وهي الأمر الجلل، الذي لا تشغل عنه سكرات الموت وصرعاته: {مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي}، هذا هو الأمر الذي جمعتكم من أجله، وهذه هي القضية التي أردت الاطمئنان عليها، وهذه هي الأمانة والذخر والتراث، {قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}"15.

وقد كان من دعاء خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم سؤال الله تعالى أن يثبته على الإسلام حتى الممات، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك، وبما جئت به؛ فهل تخاف علينا؟. قال: ((نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله؛ يقلبها كيف يشاء))16.

اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم لك أسلمنا وعليك توكلنا وإليك أنبنا؛ فاغفر لنا ما قدمنا، وما أخرنا، وما أسررنا، وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا..وصلي اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.


1 رواه البخاري (43)، ومسلم (5334).

2 صفوة الصفوة (2/331).

3 تفسير السعدي (1/137).

4 تفسير السعدي (1/137).

5 تفسير البيضاوي (2/294 – 295).

6 البخاري (4998)، ومسلم (4459)، ولم تذكر خديجة بنت خويلد.

7 اجتماع الجيوش الإسلامية (1/3).

8 تفسير ابن كثير (3/529).

9 رواه أبو داود (1301)، وقال الألباني: صحيح، انظر صحيح أبي داود (1347).

10 تفسير السعدي (1/185).

11 فتح القدير (4/283).

12 تفسير الطبري (20/271).

13 تفسير السعدي (1/665).

14 السعدي (1/67).

15 في ظلال القرآن، آية (132- 133).

16 رواه الترمذي (2066)، وقال الألباني: صحيح، انظر مشكاة المصابيح (102).