المراقبة

المراقبة

 

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلله الأسماء الحسنى، والصفات العلى، قد أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طـه: 110]. لا إله إلا هو {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}[سبأ: 3]. وهو السميع البصير، العليم الخبير، يعلم السر وأخفى، {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}[طـه: 7]. وهو معنا بعلمه أينما كنَّا، قَالَ تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}[الحديد: 4]. ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: 19]. بل يعلم ويسمع ويرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة السوداء في الليلة الظلماء، ويعلم ما في البر وما في البحر، وما تسقط من ورقة إلاَّ يعلمها، كما قال تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}[الأنعام: 59]. قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[التغابن: 4].

هو الذي يرى دبيب الذر *** في الظلمات فوق صم الصخر

وسامع للجهر والإخفات *** بسمعه الواسع للأصوات

وعلمه بما بدا وما خفي *** أحاط علماً بالجلي والخفي

 وقَالَ اللَّه تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}[الشعراء: 218 – 219]. ولذلك فإنه يجب علينا مراقبة الله سبحانه، وذلك بأن ننظر قبل فعلنا للطاعات، إن كانت نيتنا وإرادتنا في العمل لله وحده أمضيناه، وإن كان لغيره فلا نقربه، قال الحسن البصري رحمه الله: رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر. وقال ابن قدامة: ومراقبة العبد في الطاعة وهو أن يكون مخلصاً فيها. وكذلك نراقب الله إذا خلونا لوحدنا، وحدثتنا أنفسنا بالمعصية، فنتذكر أن الله يرانا، وهو رقيب علينا، فنكفَّ عنها، كما قال الشاعر:

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليَّ رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعةً *** ولا أن ما تُخفي عليه يغيب

ولنجعل حديث ثوبان رضي الله عنه نصب أعيننا، والذي قالَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأعلمنَّ أقواماً من أمتي يومَ القيامةِ يأتون بحسناتٍ كأمثالِ الجبال بيضاً، يجعلُها اللهُ هباءً منثوراً)، قال ثوبان: صفهم لنا، جلّهم لنا أن لا نكون منهم يا رسول الله؟ قال: ((أما إنهم إخوانُكم ومن جلدتِكم ويأخذون من الليلِ كما تأخذون، لكنهم إذا خلوا بمحارمِ اللهِ انتهكوها)) رواه البخاري. وإذا وقعنا في المعاصي فلنراقب الله في المبادرة بالتوبة، والإقلاع عنها، قال ابن القيم: ومراقبته في المعصية تكون بالتوبة والندم والإقلاع. وكذلك أيضاً نراقب الله في المباحات، فنشكره عليها، ولا نسترسل فيها، قال ابن القيم: ومراقبته في المباح تكون بمراعاة الأدب، والشكر على النعم، فإنه لا يخلو العبد من نعمة لا بد له من الشكر عليها. وإليك قصة عجيبة في مراقبة الله سبحانه وتعالى، قال عبد الله بن دينار: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة فعرّسنا في بعض الطريق، فانحدر عليه راعٍ من الجبل، فقال له: يا راعي، بعْني شاة من هذه الغنم؟ فقال: إني مملوك، فقال: قل لسيّدك: أكلها الذئب، قال: فأين الله؟ قال: فبكى عمر، ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه، وأعتقه، وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تُعتقك في الآخرة.

وفي فترة خلافته رضي اللهُ عنه كان من عادته أنه يتفقد أحوال رعيته، فيخرج ذات ليلة، فيمر على امرأة تغيَّبَ عنها زوجُها منذ شهور، وذلك للجهاد في سبيل الله عز وجل، فسمعها في إحدى الليالي وهي تنشد وتقول:

تطاول هذا الليل وازور جانبه *** وأرقني أن لا حبيب ألاعبه

فو الله لولا الله لا رب غيره   لحرك من هذا السريري جوانبه

وذلك لشدة مراقبتها لله تعالى، فلله درها من امرأة!، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن وضع مدة معينة للجند المرابطين في الثغور ثم بعد ذلك يرجعون إلى أهاليهم.

نسأل الله أن يرزقنا مراقبته في السر والعلانية، والحمد لله رب العالمين.