خطورة كتمان العلم

خطورة كتمان العلم

 

الحمد لله الغفور الودود، المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، والصلاة والسَّلام على سيد كل مولود، وعلى آله وصحبه الرّكع السجود، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم العرض على الحميد المجيد. أما بعد:

فإن الله قد رفع أهل العلم درجات، وفضلهم على بقية خلقه بما حملوه من الحكم والآيات، وقد كلفهم الله بتكاليف شاقة، وحملهم أعباء ثقيلة، وأوجب عليهم واجبات حتمية، ومنها أن يبينوا الحق للناس، وأن لا يكتموا العلم، وقد توعدهم إن هم كتموه بالطرد والإبعاد من رحمته، ولأن بابه مفتوح، وعطاؤه ممنوح، وفضله يغدوا ويروح، فقد دعا من حصل منه كتمان للعلم، أو التقصير في تبليغه أن يتوب إلى الله سبحانه، وأن يبين للناس ما نزّل إليهم من البينات والهدى. نسأل الله أن يجعلنا من حملة كتابه، والداعين إلى مرضاته، إنه سميع قريب مجيب.

الآيات:

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}[البقرة: 158-162].

سبب النزول:

عن عاصم بن سليمان قال: سألت: أنس بن مالك عن الصفا والمروة، فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما؛ فأنزل الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله}1.

شرح الآيات:

قوله تعالى: {إن الصفا والمروة} جبلان معروفان؛ يقال للصفا: جبل أبي قبيس؛ وللمروة: قُعَيقعان؛ وهما شرقي الكعبة؛ وقد كانت أم إسماعيل رضي الله عنها تصعد عليهما لتتحسس هل حولها أحد؛ وذلك بعد أن نفد منها التمر، والماء، وتقلص لبنها، وجاع ابنها؛ والقصة مطولة في صحيح البخاري. قوله: {من شعائر الله}، {من} للتبعيض- يعني بعض شعائر الله؛ و"الشعائر" جمع شعيرة؛ وهي التي تكون عَلَماً في الدين؛ يعني: من معالم الدين الظاهرة؛ لأن العبادات منها خفية: بَيْنَ الإنسان وربه؛ ومنها أشياء عَلَم ظاهر بيِّن، وهي الشعائر. وقوله تعالى: {من شعائر الله} ليس المراد أن نفس الجبل من الشعائر؛ بل المراد الطواف بهما من الشعائر؛ ولهذا قال تعالى: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}؛ وأضيفت الـ{شعائر} إلى {الله}؛ لأنه هو الذي شرعها، وأثبتها، وجعلها طريقاً موصلاً إليه. قوله: {فمن حج البيت}؛ حج في اللغة بمعنى قصد؛ إذاً {حج البيت} أي قصده لأداء مناسك الحج؛ و{البيت} هو بيت الله؛ أي الكعبة. قوله: {أو اعتمر}؛ {أو} للتنويع؛ لأن قاصد البيت إما أن يكون حاجاً؛ وإما أن يكون معتمراً؛ و"العمرة" في اللغة: الزيارة؛ والمراد بها زيارة البيت لأداء مناسك العمرة. قوله: {فلا جناح عليه} "لا" نافية للجنس؛ و{جناح} اسمها؛ وخبرها {أنْ} وما دخلت عليه؛ أي لا جناح عليه في التطوف بهما؛ والـ{جناح} هو الإثم؛ يعني فلا إثم عليه في أن يتطوف بهما؛ وإنما نفى الإثم؛ لأنهم كانوا يتحرجون من الطواف بهما. قوله: {أن يطوَّف بهما} أي ازداد خيراً في الطاعة؛ ويشمل الواجب، والمستحب؛ وتخصيص التطوع بالمستحب اصطلاح فقهي؛ أما في الشرع فإنه يشمل الواجب، والمستحب؛ و{من} شرطية؛ و{تطوع} فعل الشرط؛ وجواب الشرط جملة: {فإن الله شاكر} أي فالله يشكر؛ وهو سبحانه وتعالى شاكر، وشكور؛ وشكره تعالى أنه يثيب العامل أكثر من عمله؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. قوله: {عليم} أي ذو علم؛ وعلمه تعالى محيط بكل شيء؛ لقوله: {وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} [الطلاق: 12].

قوله: {إن الذين يكتمون} أي يخفون؛ لكنه لا يكون كتماً إلا حيث دعت الحاجة إلى البيان إما بلسان الحال؛ وإما بلسان المقال.

قوله: {ما أنزلنا من البينات}؛ {البينات} جمع بينة؛ وهي صفة لموصوف محذوف؛ والتقدير: من الآيات البينات. {والهدى} أي العلم النافع الذي يهتدي به الخلق إلى الله عز وجل. {من بعد ما بيناه} أي أظهرناه؛ {للناس} أي للناس عموماً، المؤمن والكافر؛ فإن الله تعالى بين الحق لعموم الناس؛ كما قال تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17]. قوله: {في الكتاب} المراد به جميع الكتب؛ فهو للجنس؛ فما من نبي أرسله الله إلا ومعه كتاب؛ كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ}[الحديد: 25]؛ وكما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].

قوله: {أولئك يلعنهم الله} أي يطردهم، ويبعدهم عن رحمته. {ويلعنهم اللاعنون} أي يسألون لهم اللعنة؛ وهم أيضاً بأنفسهم يبغضونهم، ويعادونهم، ويبتعدون عنهم.

قوله: {إلا الذين تابوا} الاستثناء هنا متصل؛ لأنه استثناء من الكاتمين؛ يعني إلا إذا تابوا؛ والتوبة في اللغة الرجوع؛ وفي الشرع: الرجوع من معصية الله إلى طاعته؛ والمراد بالتوبة هنا الرجوع عن كتمان ما أنزل الله إلى بيانه، ونشره. {وأصلحوا} أي أصلحوا عملهم {وبينوا} أي وضحوا للناس ما كتموا من العلم ببيانه، وبيان معانيه؛ لأنه لا يتم البيان إلا ببيان المعنى؛ {فأولئك} يعني الذين تابوا، وأصلحوا، وبينوا {أتوب عليهم} أي أقبل منهم التوبة؛ لأن توبة الله على العبد لها معنيان؛ أحدهما: توفيق العبد للتوبة؛ الثاني: قبول هذه التوبة؛ كما قال الله تعالى: {ثم تاب عليهم ليتوبوا}. قوله: {وأنا التواب} صيغة مبالغة، ونسبة؛ لأن فعال تأتي للمبالغة، وتأتي للنسبة: فإن قيدت بمعمول فهي للمبالغة؛ وإن أطلقت فهي للنسبة؛ أو نقول: هي للمبالغة، والنسبة بكل حال إلا أن يمنع من ذلك مانع؛ كقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[فصلت: 46] فإن هذه للنسبة؛ ولا تصح للمبالغة لفساد المعنى بذلك؛ لأنها لو كانت للمبالغة لكان المنفي عن الله كثرة الظلم مع أنه جل وعلا {لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: 40]. قوله: {الرحيم} الذي اتصف بالرحمة العظيمة التي وسعت كل شيء.

ثم لما تكلم الله في الآيتين السابقتين عن العلماء الذين كتموا الحق، انتقل إلى الكلام عن الكفار الذين استكبروا عن الحق، فقال تعالى: {إن الذين كفروا} المراد بالكُفر في القرآن والسنة: جحد ما يجب لله سبحانه وتعالى من الطاعة، والانقياد؛ وهو نوعان: إما تكذيب؛ وإما استكبار. {وماتوا وهم كفار} معطوفة على {كفروا} فلا محل لها من الإعراب؛ لأنها معطوفة على صلة الموصول التي لا محل لها من الإعراب؛ وجملة {وهم كفار} حالية من الفاعل في {ماتوا}؛ يعني أنهم -والعياذ بالله- استمروا على كفرهم إلى الموت، فلم يزالوا على الكفر، ولم يتوبوا، ولم يرجعوا؛ وخبر {إن} جملة {أولئك عليهم لعنة الله}: {أولئك} مبتدأ ثانٍ؛ و{عليهم} جار ومجرور خبر مقدم لـ{لعنة}؛ و{لعنة} مبتدأ ثالث؛ والجملة من المبتدأ الثالث، وخبره خبر المبتدأ الثاني: {أولئك}؛ والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره خبر {إن}. وقوله تعالى: {لعنة الله} أي طرده، وإبعاده عن رحمته؛ {والملائكة} أي ولعنة الملائكة. {والناس أجمعين} أي عليهم لعنة الناس أجمعين؛ يلعنهم الناس -والعياذ بالله-، ويمقتونهم ولا سيما في يوم القيامة؛ فإن هؤلاء يكونون مبغضين عند جميع الخلق؛ فهم أعداء الله سبحانه وتعالى. قوله: {خالدين فيها} أي في هذه اللعنة -والعياذ بالله-؛ والمراد فيما يترتب عليها؛ فإنهم خالدون في النار التي تكون بسبب اللعنة. قوله: {لا يخفف عنهم العذاب}؛ أي لا يخففه الله سبحانه وتعالى؛ وحذف الفاعل للعلم به. قوله: {ولا هم ينظرون} أي لا يمهلون؛ بل يؤخذون بالعقاب؛ من حين ما يموتون وهم في العذاب؛ ويحتمل أن المراد لا ينظرون بالعين؛ فلا ينظرون نظر رحمة، وعناية بهم؛ وهذا قد يؤيَّد بقوله تعالى: {قال اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108]؛ فإن هذا من احتقارهم، وازدرائهم أنهم يوبخون بهذا القول2.

بعض فوائد الآيات:

1.  مشروعية الطواف بين الصفا والمروة؛ ويؤخذ ذلك من كونه من شعائر الله؛ وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- هل الطواف ركن، أو واجب، أو سنة؟ على ثلاثة أقوال، أرجحها وأقواها أنه ركن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي))3. وقالت عائشة: والله! ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة4.

2.    دفع ما توهمه بعض الصحابة من الإثم بالطواف بالصفا والمروة؛ لقوله تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما}.

3.    الترغيب في فعل الخيرات من غير الواجبات، وذلك من سائر النوافل كالطواف والصلاة والصيام والصدقات والرباط والجهاد.

4.    أن كتم العلم من كبائر الذنوب؛ يؤخذ من ترتيب اللعنة على فاعله؛ والذي يرتب عليه اللعنة لا شك أنه من كبائر الذنوب.

5.  أن ما أنزل الله من الوحي فهو بيِّن لا غموض فيه؛ وهدًى لا ضلالة فيه؛ لقوله تعالى: {من البينات والهدى من بعد ما بيَّنَّاه للناس في الكتاب}.

6.  بيان فضل الله عز وجل على عباده بما أنزله من البينات، والهدى؛ لأن الناس محتاجون إلى هذا؛ ولولا بيان الله سبحانه وتعالى وهدايته ما عرف الناس كيف يتوضؤون، ولا كيف يصلون، ولا كيف يصومون، ولا كيف يحجون؛ ولكن من فضل الله أن الله سبحانه وتعالى بيّن ذلك.

7.  وجوب نشر العلم عند الحاجة إليه سواء ظهرت الحاجة بلسان الحال، أو بلسان المقال، ولسان الحال: أن ترى إنساناً يعمل عملاً ليس على الوجه المرضي؛ فهذا لسان حاله يدعو إلى أن تبين له الحق؛ ولسان المقال: أن يسألك سائل عن علم وأن تعلمه؛ فيجب عليك أن تبلغه ما دمت تعلم؛ أما إذا كنت لا تعلم فإنه يجب أن تقول: "لا أعلم"؛ كذلك لو رأيت الناس عمّ فيهم الجهل في مسألة من أمور الدين؛ فهنا الحاجة داعية إلى البيان؛ فيجب أن تبين.

8.  جواز لعن  الكفار والمنافقين، والمجاهرين بالمعاصي؛ كشراب الخمور، والمرابين، والمتشبهين من الرجال بالنساء، ومن النساء بالرجال، والمصورين، والعاق لوالديه، وكاتم العلم؛ لقوله: {يلعنهم اللاعنون}. وهذا اللعن على سبيل التعميم، وأما لعن الشخص المعين فلا يجوز.

9.  أنه يجب على من قال قولاً باطلاً، ثم تبين له بطلانه أن يبينه للناس إلا إذا كان اختلاف اجتهاد فلا يلزمه أن يبين بطلان ما سبق؛ لأنه لا يدري أيّ الاجتهاديين هو الصواب.

10.    أن توبة العاصي يكون بإقلاعه عن معصيته، وندمه على فعله ذلك، وعزمه على عدم العود إليها، فمثلاً من كان لا يصلي فتوبته أن يحافظ على الصلاة، ومن كان يعق والديه أحدهما أوكلاهما فيبرهما، ومن كان يكتم العلم فتوبته ببيانه للناس؛ لقوله: {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا}.

11.    أن الكافر مستحق للعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، ولكن يشترط لذلك ثبوت أن يموت على الكفر؛ لقوله تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار}.

12.          أن الذين يموتون وهم كفار مخلدون في لعنة الله، وطرده، وإبعاده عن رحمته5.

والله  من وراء القصد، وهو الهادي إلى سبيل الرشاد، والحمد لله رب العالمين.


1  رواه البخاري (4496).

2 انظر: جامع البيان في تأويل القرآن" لمحمد بن جرير الطبري (2/58- 80)، وتفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير (1/186- 188). والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/178- 190)، وتفسير ابن عثيمين (2/ 184-204)، و" أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير" لأبي بكر الجزائري (1/135- 139)، وفتح القدير للشوكاني (1/248- 252)، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير الكريم المنان لابن سعدي (1/121- 124).

3 أخرجه أحمد وابن خزيمة، وصححه الألباني في الإرواء (4/269 – 270).

4 أخرجه البخاري ومسلم.

5 انظر: تفسير ابن عثيمين (2/ 184-204)، وأيسر التفاسير لكلام العلي الكبير" لأبي بكر الجزائري (1/135- 139).