قيام الليل

قيام الليل

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، أما بعد:

فقيام الليل من أجلِّ الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى ربه، وقد أثنى الله على الصالحين الأولين فقال: كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ۝ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18] قال مجاهد وقتادة: كانوا لا ينامون ليلة حتى الصباح، وقال ابن عباس: لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون فيها شيئاً، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64]، وقال: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ۝ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17].

وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل1، وعن ابن مسعود  قال: ذكر عند النبي  رجل نام ليلة حتى أصبح، قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه – أو قال – في أذنه2، وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء3، وعن المغيرة بن شعبة قال: قام رسول الله حتى تورمت قدماه، فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً4، وعن سهل بن سعد قال: جاء جبريل  إلى النبي  فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، وأعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس5.

قال الحسن البصري: ما نعلم عملاً أشد من مكابدة الليل، ونفقة هذا المال، فقيل له: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره.

وكان ابن مسعود إذا هدأت العيون قام، فيسمع له دوي كدوي النحل، حتى يصبح. وقال رجل لأحد الصالحين: لا أستطيع قيام الليل فصف لي دواء؟ فقال: لا تعصه بالنهار؛ وهو يقيمك بين يديه بالليل.

وقال مالك بن دينار: سهوت ليلة عن وردي ونمت؛ فإذا أنا في المنام بجارية كأحسن ما يكون؛ وفي يدها رقعة، فقالت لي: أتحسن تقرأ، فقلت: نعم، فدفعت إلي الرقعـة، فإذا فيها:

أألهتك اللذائذ والأماني عن البيض الأوانس في الجنان
تعيش مخلداً لا موت فيها وتلهو في الجنان مع الحسان
تنبه من منامك إنَّ خيراً من النوم التجهد بالقرآن

وقال ابن المبارك:

إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم هجوع
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع

وقال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وقال محمد بن المنكدر: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة.

ولقد أحسن من قال :

امنع جفونك أن تذوق مناماً وذر الدموع على الخدود سجاماً 
وأعلم بأنك ميت ومحاسب يا من على سخط الجليل أقاما
لله قوم أخلصوا في حبه فرضي بهم واختصهم خداماً 
قوم إذا جن الظلام عليهم  يأتوا هنالك سجداً وقياماً 
خمص البطون من التعفف ضُمَّراً  لا يعرفون سوى الحلال طعاماً

اللهم أعنا على قيام الليل، ولا تجعلنا من الغافلين .. والحمد لله رب العالمين


1 رواه مسلم (1163).

2 رواه البخاري (3097)، ومسلم (774).

3 رواه أبو داود (1452)، وصححه الألباني.

4 رواه البخاري (4556)، ومسلم (2819).

5 رواه البيهقي في الشعب (10058)، والطبراني في الأوسط (4278)، وقال المنذري في الترغيب (2/29): رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن، وحسنه الألباني، انظر صحيح الجامع (73).