كن صابراً

كن صابراً

الحمد لله الذي جعل الصبر جواداً لا يكبو، وصارماً لا ينبو، وحصناً حصيناً لا يُثلم، والصلاة والسلام على خير الصابرين والشاكرين والحامدين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد مدح الله الصابرين، وأثنى عليهم، وجعل ثوابهم عظيماً، وعطاءهم يوم يلقونه جزيلا، بل إنه سبحانه بشر الصابرين من أجله بالرحمة، وهذا كله يدلنا على مكانة هذا الخلق وفضله.

حقيقة الصبر:

هو خلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به من فعل ما لا يُحسن ولا يجمُل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها، وحين سُئل الجنيد عن الصبر قال: “تجرع المرارة من غير تعبس”، وقال ذو النون: “هو التباعد عن المخالفات، والسكون عن تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة، وقيل الصبر هو: الوقوف مع البلاء بحسن الأدب1، وقيل الصبر: حبسُ النفس عن الجزَع، واللسان عن الشكوى، والجوارح عن المعاصي والذنوب2، بمعنى أن يتلقَّى العبد البلاءَ بصدر رحب دون شَكْوى أو سخط.

فضل الصبر والصابرين:

جعل الله ​​​​​​​ الصبر جواداً لا يكبو، وصارماً لا ينبو، وجنداً لا يهزم، وحصناً حصيناً لا يهدم ولا يُثلم، فهو والنصر أخوان شقيقان؛ فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، والعسر مع اليسر، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة، ولا عدد، ومحله من الظفر كمحل الرأس من الجسد3.

والله  قد ضمن لمن صبر أن يوفيه أجره بغير حساب، وأخبر أنه معه بهدايته، ونصره العزيز، وفتحه المبين فقال تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، فظفر الصابرون بهذه المعية بخير الدنيا والآخرة، وفازوا بها بنعمه الباطنة والظاهرة.

وقد جعل الله  الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين فقال ​​​​​​​ : وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، ثم إن الله – تعالى – أخبر أن الصبر خير لأهله فقال سبحانه: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126].

ومن فضل الصابر مع التقوى أن صاحبه لا يضره كيد العدو قال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120] فالصبر ينزل صاحبه مكانة رفيعة، فيكون ذا عز وتمكين قال سبحانه عن يوسف  : إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، ثم إن الله – تبارك وتعالى – علق الفلاح بالصبر والتقوى حيث قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، وأخبر سبحانه أنه يحب الصابرين فقال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]، ولقد بشر الله الصابرين بثلاث كل منها خير من الدنيا فقال ​​​​​​​ : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:154-157]، قال بعض السلف – وقد عزي على مصيبة نالته -: “ما لي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال، كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها”4، وغيرها من الفضائل والوصايا التي ترغب في الصبر، وتحث عليه

أما والذي لا خلد إلا لوجهه ومن ليس في العز المنيع له كفو
لئن كان بدء الصبر مراً مذاقه لقد يجنى من غبته الثمر الحلو5

مكانة الصبر:

للصبر مكانة عظيمة، ومنزلة رفيعة فقد قال علي بن أبي طالب  : “ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسم، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له”6، وقال عمر بن الخطاب  : “وجدنا خير عيشنا بالصبر”7، وقال أبو الدرداء: “من يتفقد يفقد، ومن لا يعد الصبر لفواجع الأمور يعجز”8.

أنواع الصبر:

الصبر هو نصف الإيمان، والنصف الآخر شكر، وقد ذُكِر الصبر في القرآن في تسعين موضعاً في موطن المدح، والثناء، والأمر به، وهو على أنواع: 1-  الصبر على طاعة الله ، وهو أفضلها.

2-  الصبر عن معصية الله ​​​​​​​ ، وهو يلي النوع الأول في الفضل.

3-  الصبر على امتحان الله  .

قال ابن القيم – رحمه الله -: “فالأولان صبر على ما يتعلق بالكسب، والثالث صبر على ما لا كسب للعبد فيه”9.

مجالات الصبر:

1- الصبر على بلاء الدنيا قال الله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] أي: مشقة وعناء، وبلاء وفتن، والله تعالى قال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155].

2- الصبر على مشتهيات النفس قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون:9]، ولذلك قال بعض السلف: “ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر..!”، وقالوا: “البلاء يصبر عليه المؤمن، والعافية لا يصبر عليها إلا صدّيق”.

والصبر على مشتهيات النفس لا بدّ أن يكون من وجوه أربعة كما قال ابن القيم – رحمه الله -:

أ- أن لا يركن إليها، ولا يغترّ بها.

ب- أن لا ينهمك في نيلها، ويبالغ في استقصائها.

ج- أن يصبر على أداء حق الله فيها.

د- أن لا يصرفها في حرام10.

3- الصبر عن التطلع إلى ما بيد الآخرين، وعن الاغترار بما ينعمون به من مال وبنين، فبعض قوم قارون لم يصبروا فقالوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ[القصص:79]، والله تعالى قال: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ۝ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:56]، وقال تعالى: وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ[طـه:131]، إنما أعطيناهم لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طـه:131].

4- الصبر على طاعة الله، وهذا أعظم أنواع الصبر، وأشده على النفوس فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ [مريم:65] فقوله: وَاصْطَبِرْ أكمل وأبلغ من اصبر، فالزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى قال الله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا[طـه:132].

5- الصبر على مشاق الدعوة إلى الله  فإنه غير خافٍ على الدعاة حال الناس اليوم من البعد عن الدين، وهذا البُعد يستلزم دعوة كبيرة، وإنكاراً للمنكرات، وصدعاً بالحق، فهذا عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – لما استشعر المسؤولية الكبيرة في تغيير الانحرافات المتراكمة من سنوات طويلة في العهود السابقة قال: “إني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله”!، ونوح  صبر 950 سنة، وهذا الصبر العظيم كله كان في الدعوة إلى الله، على جميع أنواع الابتلاءات قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً۝ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً [نوح:5-6]، وهكذا سراً وجهاراً ما ترك فرصة إلا قام بالدعوة، ثم الدعوة ليست عملية سهلة؛ لأن الإنسان يجد كيداً من الأعداء، وحسداً حتى من الناس الذين يظنهم معه، والقريبين منه على ما آتاه الله من فضله، فيتمنون أن يوقع به، ويضر ويتوقف، ولذلك لا بد للداعية أن يصبر في كل الأحوال قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [آل عمران:186].

6- الصبر حين البأس، وفي الحرب، وعند لقاء العدو، والتحام الصفين، فيكون الصبر شرطاً للنصر، والفرار كبيرة، ولذلك أوجب الله الثبات إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال:45]، وحذر من الفرار، وتولي الأدبار، وعندما تضطرب المعركة، وينفرط العقد؛ فيكون الصبر أشد أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]

لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة إذا استعنت بصبر أن ترى الفرج
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلج
وقل من جد في أمر يحاوله واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

الأسباب التي تعين على الصبر:

لما كان الصبر مأموراً به؛ جعل الله – سبحانه – له أسباباً تعين عليه، وتوصل إليه، ومن هذه الأسباب ما يلي:

1- أن ينظر إلى مادة قوة الشهوة، فيجدها من الأغذية المحركة للشهوة، إما بنوعها، أو بكميتها وكثرتها، ليحسم هذه المادة بتقليلها، فإن لم تنحسم فليبادر إلى الصوم فإنه يضعف مجاري الشهوة، ويكسر حدتها، ولا سيما إذا كان أكله وقت الفطر معتدلاً.

2- أن يجتنب محرك الطلب وهو النظر، فيقصر لجام طرفه ما أمكنه، فإن داعي الإرادة والشهوة إنما يهيج بالنظر، والنظر يحرك القلب بالشهوة.

3- تسلية النفس بالمباح المعوض عن الحرام، فإن كل ما يشتهيه الطبع ففيما أباحه الله – سبحانه – غنية عنه، وهذا هو الدواء النافع في حق أكثر الناس.

4- التفكر في المفاسد الدنيوية المتوقعة من قضاء هذا الوطر، فإنه لو لم يكن جنة ولا نار لكان في المفاسد الدنيوية ما ينهى عن إجابة هذا الداعي، ولو تكلفنا عدها لفاقت الحصر، ولكن عين الهوى عمياء.

5- الفكر في مقابح الصورة التي تدعوه نفسه إليها إن كانت معروفة بالإجابة له ولغيره، فيعز نفسه أن يشرب من حوض ترده الكلاب والذئاب11.

6- المعرفة بطبيعة الحياة الدنيا، وما جُبِلت عليه من المشقة والعناء، وأن الله خلق الإنسان في كبد، وأنه كادح إلى ربه كدحاً فملاقيه، وأن الآلام والتنغيص والابتلاءات من طبيعة هذه الدنياولنبلونّكم.

جبلت على كدرٍ وأنت تريدها صفو من الآلام والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار

 

*** 

7- الإيمان بأن الدنيا كلها ملك لله – تعالى -، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ[النحل:53]، والإنسان إذا حرم من شيء وابتلي يقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156].

8- معرفة الجزاء والثواب على هذا الصبر قال تعالى: نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ۝ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت:58-59] يوفون أجرهم بغير حساب.

9- الثقة بحصول الفرج، والله جعل مع كل عسر يسرين رحمة منه ​​​​​​​ : فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5-6]، فالعسر معرفة بـ (ال)، ويسر جاءت نكرة، فالعسر هو نفسه ثم يأتي يسر ثم يسر ٌثانٍ، ولن يغلب عسرٌ يسرين.

10- الاستعانة بالله – تعالى -، واللجوء إلى حماه، وطلب معونته – سبحانه -، قال موسى  لقومه: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، وحاجة الصابرين إلى الاستعانة عظيمة جداً، ولذلك كان التوكل جانباً للمعونة من الله الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت:59].

11- الإيمان بالقضاء والقدر من أعظم ما يعين على الصبر، وأن يعلم العبد أن قضاء الله نافذ، وأن يستسلم لما قضاه وقدره مما لا حيلة له به مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، ثم إن العبد يعلم أن الجزع والهلع، والتبرم والاعتراض، والتشكّي والتضجر؛ لا يجدي شيئاً، ولا يعيد مفقوداً، فلا حلّ إلا بالصبر.

اللهم اجعلنا من الراضين الشاكرين، الصابرين المحتسبين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والله أعلم.


1 عدة الصابرين ص (29).

2 انظر: مدارج السالكين (2/ 156).

3 عدة الصابرين ص (18).

4 عدة الصابرين ص (99).

5 المصدر السابق ص (128).

6 عدة الصابرين ص (124).

7 المصدر السابق.

8 حلية الأولياء (1/181).

9 راجع: مدارج السالكين (1/156).

10 عدة الصابرين ص (50).

11 عدة الصابرين ص (76-78).