إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً

 

 

إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فإن الدعاء عبادة لله عز وجل، وقربة يتقرب به العبد إلى الله، وسبب لنيل المقامات العليا، ودفع لما قد ينزل من شر القضاء، فهو سلاح قوته وتأثيره بحسب قوة الضارب به، وعدم وجود المانع من التأثير عليه، ولكن له شروطاً وآداباً جاء الكتاب والسنة ببيانها، والإفصاح عنها، ونحن كما قد تعودنا أن نذكر في بداية كل درس من الدروس الحديثية حديثاً مشهوراً في أي باب نرغب الحديث عنه، ثم نتبع ذلك بذكر بعض التعليقات، والمواضيع التي لها تعلق بحديثنا، والله نسأل أن يلهمنا الرشاد، وأن يجنبنا طريق أهل الزيغ والإلحاد، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم المعاد.

نص الحديث:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله  : ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[المؤمنون: 51]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}[البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر: أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يارب! يارب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!”1.

الشـرح:

قوله: “إن الله طيب” هذا إخبار عن كمال صفاته التي لا يدخلها نقص ولا عيب، والطيب من أسمائه عز وجل: (إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ) وهذا يشمل طيب ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه. ومعنى طيب أي: منزه عن النقائص والعيوب كلها، ومتصف بالكمالات من النعوت2.

قوله: “لا يقبل إلا طيباً” أي لا يقبل من العمل إلا ما كان طيباً، وهو العمل الذي يتعبد فيه فاعله لخالقه، ثم أخلص فيه نيته لله، ثم كان فعله له على وفق ما شرعه الله ورسوله.

قوله: “وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين“أي أن ما أمر الله به الرسل فإنه أمر للمؤمنين، إلا ما خصه الدليل. وقد امتن الله على المؤمنين بأن بعث فيهم الرسل ليأمروا قومهم بكل ما فيه نفعهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، ويحذرونهم من كل ما فيه مضرتهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، ومما ينفعهم في دينهم ودنياهم وأخراهم تحليل كل ما هو طيب، وتحريم كل ما هو خبيث، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًاعِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف: 157]، وإنما خص هنا الأكل من الطيبات بالذكر لمزيد من العناية والاهتمام؛ ولأن الناس لا يتحرزون من الأكل من الطيب الحلال -إلاالقليل جداً-، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}.

قوله: “ثم ذكر الرجل يطيل السفر: أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يارب! يارب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!”. في هذه الجمل من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم فهو يشير إلى أول الحديث: “إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً” وذلك أن الله لا يقبل من الدعاء إلا ما كان دعاءً طيباً، توفرت فيه أسباب وشروط الدعاء، ولم يوجد مانع من الإجابة، فأشارفي هذه الجمل إلى بعض أسباب وشروط وموانع الدعاء، فذكر من أسباب إجابة الدعاء:

1-  إطالة السفر، فقال: “يطيل السفر” وقد جاء بيان ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي   قال: “ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم3. وكون السفر الطويل سبب لإجابة الدعاء؛ لأن إطالة السفر مظنة حصول انكسار القلب؛لكثرة تحمل المشاق، ولحصول الغربة عن الأهل والأوطان، وانكسار القلب من أعظم أسباب إجابة الدعاء.

2-  التبذل والتواضع في اللباس والهيئة، فقال: “أشعث أغبر“الأشعث غير الممتشط، وهذا دليل تواضعه وانكسار قلبه، وتعلقه بربه، والأغبر مأخوذ من الغبار؛ لأنه كان في سفر، والسفر مظنة التعب والإعياء، وتراكم الأتربة على جسده،وقد جاء في الحديث المشهور قوله صلى الله عليه وسلم: ((رُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين، مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره))4. وقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم إذا خرج يستسقي خرج مبتذلاً متواضعاً متضرعاً.

3-  رفع اليدين “يمد يديه  إلى السماء” هذا كناية عن شدة مبالغته في الدعاء، فهو يرفع يديه إلى السماء ومع ذلك لا يستجاب له!. وقد جاءت أحاديث أخرى تبين أن رفع اليدين من أسباب إجابة الدعاء، بل ذهب بعض العلماء إلى أن أحاديث رفع اليدين في الدعاء متواترة، ومن هذه الأحاديث ما جاء عن سلمان الفارسي عن النبي   قال: ((إن الله تعالى حيي كريم،يستحي إذا رفع الرجل يديه أن يردهما صفراً خائبتين))5. وقد حُفظ عن رسول الله   رفع يديه في الدعاء في مواقف عديدة؛كالاستسقاء، والحرب، وعلى المنبر، وفي القنوت، وغير ذلك، وبكيفيات وهيئات مختلفة.

4- الإلحاح.

5-  دعاءالله والثناء عليه بأسمائه الحسنى، فقال: “يا رب يا رب“ونظير هذا الدعاء في كتاب الله قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة:201]، وقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَفَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} إلى قوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِإِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[آل عمران: 192- 194]. وأمثال ذلك كثير. ولكن هذا الرجل مع هذا كله لم يستجب له لوجود موانع منعت إجابة الدعاء. ثم ذكرالنبي   هذه الموانع فقال: ((ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!)). أي مع توفر تلك الأسباب، ووجود ذلك المانع وهو التغذية بالطعام والشراب الحرام، والملبس الحرام، بل إنه قد صبغت معيشته كلها بأكل الحرام، فمن كان هذا حاله: “أنى يستجاب له؟ ” أي كيف يستجاب له؟! . وفي هذا الإشارة إلى أنه من أراد أن تكون دعوته مستجابة فعليه إطابة المطعم والمشرب والملبس، وقد جاء في الحديث أن النبي   قال لسعد رضي الله عنه: “أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة6. وعن عكرمة بن عمار قال حدثنا الأصفر، قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله   فقال: ما رفعتُ إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من أين مجيئها، ومن أين خرجت. وعن وهب بن منبه قال: من سره أن يستجيب الله دعوته فليطب طعمته..

وإتماماً للفائدة أحببنا أن نضيف بعض أسباب وشروط وموانع إجابة الدعاء، على ما ذكره الغزالي حيث قال: من آداب الدعاء:

1-  أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة؛ كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعات الليل.

2-  أن يغتنم الأحوال الشريفة كحال الزحف، وعند نزول الغيث، وعند إقامة الصلاة، وعند إفطار الصائم، وحالة السجود، وفي حال السفر.

3-  أن يدعو مستقبل القبلة مع خفض الصوت بين المخافتة والجهر، وأن لا يتكلف السجع في الدعاء، فإن حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع والتكلف لا يناسبه.

4-  الإخلاص في الدعاء، والتضرع والخشوع، والرغبة والرهبة، وأن يجزم الدعاء ويوقن بالإجابة،ويصدق رجاؤه فيه.

5-  أن يلح في الدعاء ويكون ثلاثاً، كما أن لا يستبطئ الإجابة.

6-  أن يفتتح الدعاء ويختمه بذكر الله تعالى، والصلاة على النبي  ، ثم يبدأ بالسؤال.

7-  التوبة ورد المظالم، والإقبال على الله عز وجل، وتحري أكل الحلال7.

بعض فوائد الحديث:

1. أن الله متصف بكل صفات الجلال والكمال، ومنزه عن جميع النقائص والعيوب.

2. أن الله لا يقبل من الأقوال والأعمال والاعتقادات إلا ما كان طيباً، ولا يمكن أن يكون طيباً حتى يتوفر فيه شرطين أساسيين: الإخلاص الله، واتباع النبي  .

3. أن الأنبياء والرسل والناس جميعاً مكلفون بجميع الأحكام والتكاليف الشرعية إلا ما خصه الدليل.

4. ينبغي للإنسان أن يحرص على توفر شروط وأسباب إجابة الدعاء، وأن يحذر من موانع ذلك.

5. إثبات صفة العلو لله، وأنه سبحانه في السماء.

عاتب نفسك:

نختم هذه الفوائد بقصة حرية بالتأمل، والوقوف عند كل فقرة من فقراتها، وهي قصة تتعلق بموانع إجابة الدعاء؛ فإننا نسمع من يشتكي من أنه يدعو الله ولم يستجب له، فما هو السبب؟ وأين يكمن الخلل؟ يجيب عن ذلك إبراهيم ابن أدهم، فقد حُكي أنه مر بسوق البصرة فاجتمع الناس إليه، وقالوا له: يا أبا إسحاق ما لنا ندعو فلا يستجاب لنا؟!. قال: لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء:

الأول: عرفتم الله ولم تؤدوا حقه. والثاني: زعمتم أنكم تحبون رسول الله   وتركتم سنته. والثالث: قرأتم القرآن فلم تعملوا به. والرابع: أكلتم نعم الله ولم تؤدوا شكرها. والخامس: قلتم إنَّ الشيطان عدو لكم ولم تخالفوه. والسادس:قلتم إنَّ الجنة حق ولم تعملوا لها. والسابع: قلتم إنَّ النار حق ولم تهربوا منها. والثامن: قلتم إنّ الموت حق ولم تستعدوا له. والتاسع: انتبهتم من النوم فاشتغلتم بعيوب الناس ونسيتم عيوبكم. والعاشر: دفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم..

والله المستعان، وعليه التكلان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 رواه أحمد (8347)، ومسلم (1015) والترمذي (2989).

2 جامع العلوم الحكم لابن رجب (1/258)، وكشف المشكل من حديث الصحيحين (3/572)، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 1889)، وشرح الأربعين النووية للعثيمين (ص: 144).

3 رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد. وحسنه الألباني في صحيح أبي داود رقم (1359).

4 رواه مسلم.

5 رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3117) وأبي داود (1337).

6 الحديث ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة وقال: ضعيف جداً.. ولكن يشهد لمعناه الحديث الذي نحن بصدد الحديث عنه.

7 انظر إحياء علوم الدين (1/361 – 365) ط:  دار الكتب العلمية. بيروت – لبنان.