السلف ومحاسبة النفس

السلف ومحاسبة النفس

(نماذج من محاسبة النفس)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإنَّ أفضل هذه الأمة، وأخيرها على الإطلاق؛ الصحابة الكرام وذلك بإجماع أهل الإسلام، وأفضلهم على الإطلاع أبي بكر الصديق  فإنه لو وضع إيمانه في كفة، وإيمان الأمة كلها في كفة؛ لرجح إيمانه على إيمان الأمة، ثم بعده عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم بقية أصحاب رسول الله  ، ثم من جاء من بعدهم من التابعين، ثم من بعدهم وهكذا.

ولذلك فإننا لو أردنا أن نذكر بعضًا من أخبارهم، وما قدموه لخدمة دينهم في هذه الجلسة الإيمانية لما قدرنا على ذكر نقطة مما قاموا بعلمه، ولكن حسبنا أن نذكر نماذج رائعة، وصور مشرقة في جانب واحد من جوانب حياتهم وهو جانب المحاسبة للنفس، ومعاتبتها؛ لعلّها تحرّك القلوب، وتشحذ الهمة؛ فعن أنس بن مالك  قال: سمعتُ عمر بن الخطاب  يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً، فسمعتُه يقول وبيني وبينه جدار: “عمر! أمير المؤمنين! بخٍ بخٍ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك”1. وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: “أَتَتْركون الخليفة حين يكون فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟! وضربه بالدرّة، فانصرف الرجل حزيناً، فتذكّر عمر أنه ظلمه فدعا به، وأعطاه الدرّة، وقال له: اضربني كما ضربتُك، فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك، فقال عمر: إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقّك، فقال الرجل: تركته لله، فانصرف عمر إلى منزله فصلَّى ركعتين، ثم جلس يقول لنفسه: “يا ابن الخطاب: كنتَ وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وضعيفاً فأعزّك الله، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على دفع الظلم فظلمتَه؟! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق الناس عليه”2. وقال إبراهيم التيمي – رحمه الله -: “مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أيّ شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً! قلتُ: فأنتِ في الأمنية فاعملي”3. وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: “كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار، ثم يقول لنفسه: يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ كذا؟”4. ونُقِل عن توبة ابن الصّمة: “أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً، وخمسمائة يوم؛ فصرخ وقال: يا ويلتى! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟! ثم خرّ فإذا هو ميّت! فسمعوا قائلاً يقول: يا لكِ ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى”5 قال الغزالي – رحمه الله – معلّقاً على هذه القصّة: “فهكذا ينبغي أن يحاسب العبد نفسه على الأنفاس، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كلّ ساعة، ولو رمى العبد بكلّ معصية حجراً في داره لامتلأت دارُه في مدة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي؛ والملكان يحفظان عليه ذلك: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ… [المجادلة:6]6. وقال عبد الله بن قيس  : “كنّا في غزاةٍ لنا فحضر العدو، فَصِيحَ في الناس، فقاموا إلى المصافّ في يومٍ شديد الريح، وإذا رجلٌ أمامي وهو يخاطب نفسَه ويقول: أيْ نفسي! ألم أشهد مشهد كذا، فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟! فأطعتُك ورجعت! ألم أشهد مشهد كذا، فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟! فأطعتُكِ ورجعت! واللهِ لأعرضنّكِ اليوم على الله أخَذَكِ أو تَركَكِ، فقلت: لأرمقنّكَ اليوم، فرمقته فحمل الناسُ على عدوّهم فكان في أوائلهم، ثم إنّ العدو حمل على الناس فانكشفوا (أي هربوا) فكان في موضعه، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتِل؛ فو اللهِ ما زال ذلك به حتى رأيتُه صريعاً، فعددتُ به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة”7. والله نسأل أن يعيننا على محاسبة أنفسنا، وأن يجمعنا بأولئك النفر الكرام إنه جواد كريم، بر رحيم، وصلى الله وسلّم على محمدٍ وآله وصحبه وسلّم.


1كتاب الزهد للإمام أحمد صـ (171).

2 مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب  لابن الجوزي صـ (171).

3 كتاب الزهد للإمام أحمد صـ (501).

4 المصدر السابق (336).

5 إحياء علوم الدين (4/589).

6 إحياء علوم الدين (4 /589).

7 المصدر السابق (4 /591).