نكران الجميل

نكران الجميل

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً.

 

أرسله الله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعيناً عميا، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين من ربه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسيلماً كثيراً..

 

أما بعد:

أيها الناس: إن من مساوئ الخلال، وذميم الخصال التي حذرنا منها الإسلام "نكران الجميل".

ونكران الجميل يتنافى مع طبائع النفوس السوية، التي طُبعت على حب مَنْ أحسن إليها، والتوقف إزاء مَنْ أساء إليها؛ ولذلك فإنه من الصعوبة بمكان أن يكون ناكر الجميل سوياً في نفسه أو مستقيماً في سلوكه وطبائعه؛ ما ينعكس بالدرجة الأولى على ذاته وشخصيته وعلاقته مع غيره، فينفضُّ الناس من خدمته بعد أن يكتشفوا حقيقة مرضه الدفين في نفسه.

وقد حثنا ديننا الحنيف على شكر مَنْ يقدم لنا معروفاً حتى تسود العلاقات الطيبة في المجتمع، فأكد الإسلام بر الوالدين، وشكرهما جزاء ما قدما لنا، كما وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته إلى الإقرار بالجميل وتوجيه الشكر لمن أسداه إلينا، بل الدعاء له حتى يعلم أنه قد كافأه؛ فعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (… ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوا به فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) 1 .

 

وقد وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضاً أمته إلى الاعتراف بالجميل وعدم نكرانه؛ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من أُعطيَ عطاءً فوجد فليجْز به، ومن لم يجد فليثن فإن مَن أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر، ومن تحلَّى بما لم يُعْطَهْ كان كلابس ثوبَي زور) 2 .

أما أن يحسن الآخرون إلى أحدنا فلا يجدون إلا نكرانًا فهذا دليل على خِسَّة النفس وحقارتها؛ إذ النفوس الكريمة لا تعرف الجحود ولا النكران، بل إنها على الدوام وفية معترفة لذوي الفضل بالفضل:

 

ولقد دعتني للخلاف عشيرتي *** فعددت قولهم من الإضلال

إني امرؤٌ فيَّ الوفاء سجيـة*** وفعـال كل مهذب مفضال 3

 

أما اللئيم فإنه لا يزيده الإحسان والمعروف إلا تمردًا:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته*** وإن أنت أكرمت اللئيم تمرد 4

 

فحين لا يقر الإنسان بلسانه بما يقر به قلبه من المعروف والصنائع الجميلة التي أسديت إليه سواء من الله أو من المخلوقين فهو منكر للجميل جاحد للنعمة.

أيها الناس: إن نكران الجميل، وجحد نعمة الآخرين سببٌ من أسباب دخول النار -والعياذ بالله-، فعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أُريت النار فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن)، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: (يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهنَّ الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قط) 5 .

 

ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله؛ فقد جاء في الحديث: عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر: (من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب) 6 . وهكذا يُوجه النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته إلى الإقرار بالجميل، وشكر من أسداه، بل والدعاء له حتى يعلم أنه قد كافأه؛ فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن أتى عليكم معروفًا فكافئوه؛ فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه).

 

أيها المؤمن: إن نكران الجميل سبب العقوبة وزوال النعم، قال الأصمعي -رحمه الله-: سمعت أعرابيًا يقول: "أسرع الذنوب عقوبةً كفر المعروف"، وقد جاءت السنة بالدلالة على ذلك فقد جاء في الحديث عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم. فبعث إليهم ملكًا. فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لونٌ حسنٌ وجلدٌ حسنٌ ويذهب عني الذي قد قذرني الناس. قال: فمسحه فذهب عنه قذره، وأعطي لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل. قال: فأعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعرٌ حسنٌ ويذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس. قال: فمسحه فذهب عنه وأعطي شعرًا حسنًا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر. فأعطي بقرة حاملاً. قال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إليَّ بصري فأبصر به الناس. قال: فمسحه فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم. فأعطي شاة والدًا فأنتج هذان وولد هذا. قال: فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا واد من الغنم.

 

قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرًا أتبلغ عليه في سفري. فقال: الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك! ألم تكن أبرص يقذرك الناس؟! فقيرًا فأعطاك الله مالاً؟! فقال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر. فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت.

قال: وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد على هذا. فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت.

قال: وأتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك؛ شاة أتبلغ بها في سفري.

فقال: قد كنت أعمى فردَّ الله إليَّ بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فو الله لا أجهدك اليوم شيئًا أخذته لله، فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك) 7 .

 

ففي هذا الحديث أنكر كل من الأبرص والأقرع نعمة الله تعالى، وجحدوا إحسانه عليهم، وزعموا أنه من كدهم وكد آبائهم، وهذا من أقبح ما يكون عليه الإنسان كما قال عن قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} (78) سورة القصص ، فعاقبه الله تعالى عقوبة كبيرة فخسف به وبداره الأرض.

اللهم أعنا على شكر نعمك، وحسن عبادتك، وتذكر آلائك ومننك، اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.. اللهم اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، نبينا محمد بن عبد الله خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:

 

فإليك أخي المسلم نماذج رائعة في حفظ المعروف وعدم إنكاره وجحوده، ويأتي في مقدمة تلك النماذج رسول البشرية، وهادي الإنسانية محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فمن ذلك حفظه ورعايته لمعروف نسائه، فقد حفظ لهن المعروف بعد وفاتهن؛ فمن ذلك حفظ لمعروف زوجته الأولى خديجة بعد وفاتها؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما غرت على أحد من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة! فيقول: (إنها كانت وكانت..، وكان لي منها ولد) 8 .

 

ومن ذلك حفظه المعروف لأصحابه الكرام، ومجازاتهم على ما بذلوه في نصرة الإسلام، والدفاع عن نبيه؛ فمن ذلك مجازاته لربيعة بن كعب؛ فعن ربيعة بن كعب -رضي الله عنه- قال: كنت أخدم رسول -صلى الله عليه وسلم- وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع، حتى يصلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء الآخرة، فأجلس ببابه إذا دخل بيته، أقول: لعلها أن تحدث لرسول الله-صلى الله عليه وسلم- حاجة، فما أزال أسمعه يقول: سبحان الله! سبحان الله! سبحان الله وبحمده! حتى أمل، فأرجع أو تغلبني عيني فأرقد، قال: فقال لي يوماً لما يرى من خفتي له وخدمتي إياه: (سلني يا ربيعة أعطك)، قال فقلت: أنظر في أمري يا رسول الله، ثم أعلمك ذلك؟ قال: ففكرت في نفسي فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وأن لي فيها رزقاً سيكفيني ويأتيني، قال فقلت: اسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لآخرتي فإنه من الله -عز وجل– بالمنزل الذي هو به، قال: فجئت فقال: (ما فعلت يا ربيعة؟)، قال: فقلت: نعم يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسألك أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار، قال فقال: (من أمرك بهذا يا ربيعة؟)، قال: فقلت: لا والله الذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد ولكنك لما قلت: سلني أعطك وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به نظرت في أمري وعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة، وأن لي فيها رزقاً سيأتيني، فقلت: أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لآخرتي، قال: فصمت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- طويلاً، ثم قال لي: (إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود) 9 .. وغير ذلك مما سطرته كتب الحديث في حفظه صلى الله عليه وسلم للمعروف.

 

فإياك إياك أيها المسلم من نكران الجميل، واشكر صنائع المعروف، وكن من الأوفياء، فإن الكريم يحفظ ود ساعة..

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


 


 1   رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم (1468) وفي صحيح الجامع، رقم(6021).

 2  رواه أبو داود، والترمذي وقال : "حديث حسن غريب" واللفظ له. وقال الألباني: "حسن"،

 3  المستطرف في كل فن مستظرف، صـ(430) للأبشيهي..

 4  فيض القدير(1/65). المناوي.

 5  رواه البخاري ومسلم.

 6  رواه أحمد، وقال الألباني: "حسن صحيح"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(976).

 7  رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

 8  رواه البخاري.

 9  رواه أحمد.