مفهوم شهادة أن محمداً رسول الله

مفهوم شهادة أن محمداً رسول الله

 

مفهوم شهادة أن محمداً رسول الله

صلى الله عليه وسلم

(1- 4)

 

الخطبـة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهـد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً.

هدى الله به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمـة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه حتى أتاه اليقين من ربه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أمـا بعـد:

أيها المؤمنون: إن الله لم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لهدف سام، وغاية نبيلة، قال الله تعالى:{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} سورة المؤمنون: 115. وقال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}سورة الذاريات: 56.

وأقام عليهم الحجـة، وأنزل عليهم كتبه لتوضيح مراده، وذلك بواسطة رسله قال الله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ }سورة النحل: 36. وقال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}سورة النساء: 165.

وقد جعل الله أفضلهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم فأرسله إلى الناس كافة؛ كما قال رب العزة والجلال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}سورة سبأ: 28.

وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}سورة الأعراف: 158.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي… وبعثت للناس كافة"رواه البخاري ومسلم.

وقد بعثه الله على حين فترة من الرسل، وظهور الكفر وانطمـاس السبل، فأحيا به ما اندرس من معالم الإيمان، وقمع به أهل الكفر والطغيان، فتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

 وهو الرحمة للعالمين جميعاً، وحجة على الخلق أجمعين، قال الله – تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}سورة الأنبياء: 107. وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}سورة آل عمران: 164.

وقال : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}سورة التوبة: 128.

وإنما كانت رسالته نعمة يمتن الله بها على عباده؛ لأن في ذلك تخليصاً لمن وفقه الله وهداه منهم من العذاب السرمدي، وذلك بالإيمان بالله ورسوله والابتعاد عن كل ما يوجب دخول النار والخلود فيها.

ولذلكم- يا عباد الله!- فإنه لا بد من الإيمان به صلى الله عليه وسلم ، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لايعبد الله إلا بما شرع، وأن لا يعبد بالأهواء ولا بالبدع، إلا فالنار النار، قال الله – تعالى- : {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} سورة الليل: 14- 16. أي كذب به وتولى عن طاعته.

وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى " قالوا : يارسول الله ومن يأبى ؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى".

 وقد قرن سبحانه كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، بكلمة محمد رسول الله، فلا تكاد تذكر كلمة لا إله إلا الله إلا ذكر معها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مما يدل على تلازمهما؛ قال شيخ الإسلام بن تيمية- قدس الله روحه-: وقد أمر الله بطاعة رسوله في أكثر من ثلاثين موضعاً من القرآن، وقرن طاعته بطاعته، وقرن بين مخالفته ومخالفته؛ كما قرن بين اسمه واسمه، فلا يذكر الله إلا ذكر معه1.

أيها الموحدون: لقد جهـل كثير من الناس مفهوم شهادة أن محمداً رسول الله، وما يلزم تجاهها من حقوق وواجبات، وما لهذه الكلمة من شروط ونوا قض؛ لذا كان لا بد من الحديث عن مفهوم هذه الكلمة.

أيها المؤمنون: إن لزاماً على كل من ينطق بشهادة أن لا إله الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدين الله بهذا الدين، ورضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً؛ أن يفهم معنى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما مقتضياتها ولوازمها وحقوقها وواجباتها، ونو اقضها.

أيها المسلم: إن الإيمان بالنبي محمد  صلى الله عليه وسلم داخل في الركن الرابع من أركان الإيمان الستـة، ودليل ذلك حديث جبريل المشهور.

يقول شيخ الإسلام بن تيمية – رحمه الله – : وأما الإيمان به فهو المهم، إذ لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، ولا تحصل النجاة والسعادة بدونه، إذ هو الطريق إلى الله – سبحانه-، ولهذا كان ركنا الإسلام " أشهـد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله" 2.

أمـة الإسـلام: إن كثيراً من الناس قد جهلوا أو تجاهلوا أن للشهادتين شروطاً، وبالتالي وقعوا في الزلل وهم يشعرون أو لا يشعرون، وهي مرتبطة بعضها ببعض، وإليكم هذه الشروط، لتعملوا بها، ولتكونوا على علم بلوازمها ومقتضياتها.

أولها: العلم: إذ العلم بالشيء شرط عند الشهادة به، قال الله – تعالى- {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } سورة الزخرف: 86. ودليل العلم بالشهادة قوله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}سورة محمد: 19.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة". والمقصود بالعلم هنا معرفة معنى الشهادتين ومقتضياتهما ولوازمهما المترتبة على ذلك.

فمعنى "لا إله إلا الله" أي لا معبود بحق إلا الله. ومقتضاها ولازمها: نفي الشرك وإثبات الوحدانيـة لله – تعالى-، وإفراده بالعبادة مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته من ذلك والعمل به 3.

ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: الإقرار والاعتراف للرسول صلى الله عليه وسلم أنه عبد الله ورسوله إلى الناس كافة.

ومقتضاها ولازمها: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع4.

ثانيها: اليقين: أي استيقان القلب بالشهادتين، وذلك بأن يعتقدهما اعتقاداً جازماً لا يصاحبه شك أو ارتياب؛ لأن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن، قال الله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }سورة الحجرات: 15.

وعن أبي هريرة  رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة" رواه مسلم.

ثالث الشروط: الإخـلاص: وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك5.

قال الله  عز وجل:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }سورة البينة: 5.

 وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" رواه البخاري.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه"رواه البخاري.

رابعها: الصدق المنافي للكذب، وهو أن يقولها صادقاً من قلبه يواطئ قلبه لسانه6. قال الله تعالى: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}سورة العنكبوت: 2- 3. أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان ممن هو كاذب في قوله ودعواه، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون ومالم يكن لو كان كيف يكون، وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة7.

وعن أنس بن مالك  رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال:" يا معاذ بن جبل!". قال : لبيك يا رسول الله وسعديك. قال:" يا معاذ !" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثاً، قال: " ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار " رواه البخاري ومسلم.

خامس الشروط: المحبة لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلت عليه ولأهلها والعاملين بها الملتزمين بشروطها، وبغض ما ناقض ذلك8.

قال الله – تعالى-: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}سورة التوبة: 24.

 ففي الآية دليل على وجوب محبة الله ورسوله ولا خلاف في ذلك بين الأمة وأن ذلك مقدم على كل محبوب9.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله كما يكره أن يقذف في النار" رواه البخاري ومسلم.

سادسها: الانقياد؛ أي الاستسلام لأوامر الله، وما أنزل من الشرع على لسان نبيه ظاهراً وباطناً، قال الله – تعالى- : {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}سورة لقمان: 22. 

ففي هذه الآية: يقول تعالى مخبراً عن من أسلم وجهه لله أي أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه، ولهذا قال: {وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي في عمله بإتباع ما به أمر، وترك ما عنه زجـر{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي فقد أخذ موثقاً من الله متيناً أنه لا يعذبه  {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور ِ} 10.

سابعها: القبول؛ أي قبول الشهادتين والالتزام بمقتضياتهما ولوازمهما، قال الله تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} سورة البقرة: 285. وقال الله تعالى في شأن من لم يقبلها : {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ }سورة الصافات: 36 – 35.  

وقد جمع هذه الشروط العالم الفذ حافظ حكمي في سلم الوصول، مبيناً أن كلمـة التوحيد، هي الجامعة لكل الدين، وعليها مدار السعادة والشقـاء، ولكن مع الالتزام بمعناها، والعمل بمقتضياتها، وتوفر شروطها، وانتفاء موانعها، فقال:

 

وقد حوته لفظـة الشهـادة           فهي سبيل الفوز والسعادة

من قالها معتقـداً معنـاهـا           وكان عـاملاً بمقتضاهـا

في القول والفعل ومات مؤمناً         يبعث يوم الحشر ناج آمنـاً

فإن معناهـا الذي عليـه         دلت يقينـاً وهـدت إليـه

أن ليس بالحق إلـه يعبـد          إلا الإلـه الواحـد المنفـرد

بالخلـق والرزق وبالتـدبير         جل عن الشريـك والنظـير

وبشروط سبعة قد قيـدت          وفي نصوص الوحي حقاً وردت

فإنــه لم ينتفـع قـائلهـا        بالنطق إلا حيث يستكملهـا

العـلم واليقـين والقبــول       والانقيـاد فـادر ما أقــول

والصـدق والإخـلاص والمحب    وفقــك اللـه لمـا أحبــه

 

فهذه هي شروط الشهادتين  التي يجب على المسلم تحقيقها، والعمل بمقتضياتها ومستلزماتها، وأن لا يرتكب ناقضاً من نواقضها، حتى يكون من أهلها. وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

 الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله.

 وبعد:

 أمـة محمد صلى الله عليه وسلم : إن لهاتين الشهادتين شروطاً ذكرناها آنفاً، ولكن يجب أن يعلم أن لهاتين الشهادتين نواقض، يجب أن يحذر من الوقوع في شيء منها، وكما قيل:

عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه          ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه

 

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافـة أن يدركني. رواه البخاري ومسلم. ولمعرفة نواقض شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول: لما كان الإيمان به صلى الله عليه وسلم يعني تصديقه وتصديق ما جاء به، والانقياد له ظاهراً وباطناً، فإن الطعن في أحد هذين الأمرين يناقض وينافي التلفظ، بشهادة أن محمداً رسول الله، ولتوضيح ذلك نقول: أولاً: الطعن في شخص النبي – صلى الله عليه وسلم-، ويدخل فيه نسبة أي شيء للنبي صلى الله عليه وسلم مما يتنافى مع اصطفاء الله له لتبليغ دينه إلى عباده، فيكفر كل من طعن في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أو أمانته أو عفته أو صلاح عقله ونحو ذلك.

كما يكفر من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه، أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرض به، أو شبهه بشيء على طريق السب له، أو لإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه، أو العيب له، فهو ساب له، وحكمه أنه يقتل كفراً، وكذلك من لعنه، أو دعا عليه، أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه مالا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة يستحق من الكلام، وهجر- القبيح من الكلام – ومنكر من القول وزوراً، أو عيّره بشيء مما جرى من البلاء والمحنـة عليه، أو تنقصه ببعض العوارض البشرية الجائزة المعهودة لديه11.

والساب إن كان مسلماً فإنه يكفر ويقتل بلا خلاف ، وهو مذهب الأئمة الأربعـة وغيرهم. وإن كان ذمياً فإنه يقتل أيضاً في مذهب مالك وأهل المدينة وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث وهو المنصوص عن الشافعي نفسه كما حكاه غير واحد12.

وسواءً كان هذا الساب والمستهزئ جاداً أو هازلاً، فإنه يعمه الحكم السابق؛ لقوله تعالى :{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}سورة التوبة:65 – 66.

وقد روي عن رجال من أهل العلم منهـم ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم و قتادة دخل حديث بعضهم في بعض، أنه قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، فقال له عوف بن مالك كذبت ولكنك رجل منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله، وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث حديث الركب، نقطع به عناء الطريق. قال ابن عمر رضي الله عنه : كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله، وإن الحجارة لتنكب رجليه، وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون" وما يلتفت إليه، ولا يزيده عليه13.

فهؤلاء لما تنقصوا النبي صلى الله عليه وسلم حيث عابوه والعلماء من الصحابة واستهانوا بخبره أخبر الله أنهم كفروا بذلك، وإن قالوه استهزاءً فكيف بما هو أغلظ من ذلك؟! 14.

وقال الله – تعالى- : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا}سورة الأحزاب: 57. واللعن: الإبعاد عن الرحمـة، ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخـرة لا يكون إلا كافراً 15.

ففي هذه الآية قرن الله بين أذى النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه كما قرن في آيات أخر بين طاعته وطاعة نبيه، وفي هذا وغيره بيان لتلازم الحق، وأن جهـة حرمـة الله – تعالى- ورسوله جهـة واحدة، فمن آذى الرسول صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، لأن الأمة لا يعلمون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد منهم طريق غيره ولا سبب، وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه وإخباره وبيانه، فلا يجـوز أن يفرق بين الله ورسوله في شيء من هذه الأمـور16.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله" فقام محمد بن مسلمة فقال : يا رسول الله ! أتحب أن أقتله؟ قال : " نعـم…" رواه البخاري ومسلم.

وقد أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، وكذلك حكى غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره، قال الإمام إسحاق بن راهويه: أجمـع المسلمون على أن من سب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً مما أنزل الله عز وجل، أو قتل نبياً من أنبياء الله  عز وجل أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل إليه.

وقال الخطابي: لا أعلم أحـد من المسلمين اختلف في وجوب قتله. وقال محمد بن سمنون : أجمـع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم والمنتقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر17

أيها المسلم: لتعلم أن سب النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به عدة حقوق، أولاً: حق الله عز وجل حيث كفر برسوله وعادى أفضل أنبيائه وبارزه بالمحاربة، ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته؛ فإن الطعن في الرسول طعن في المرسل، وتكذيبه تكذيب لله – تبارك وتعالى – وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته .

ثانياً: وتعلق به حق جميع المؤمنين من هذه الأمـة ومن غيرها من الأمم؛ فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصاً أمتـه، فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بواسطته وشفاعته، فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسب جميعهم؛ كما أنه أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين.

ثالثاً: حق نفسه صلى الله عليه وسلم، فإن الإنسان تؤذيه الوقيعـة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصاً من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه، وعلو قدره؛ لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة، فإن هتك عرضه وعلو قدره قد يكون أعظم عنده من قتله؛ فإن قتله لا يقدح عند الناس نبوته ورسالته وعلو قدره، كما أن موته لا يقدح في ذلك، بخلاف الوقيعة في عرضه، فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفرة عنه، وسوء الظن به؛ ما يفسد عليهم إيمانهم، ويوجب لهـم خسارة الدنيا والآخـرة…18.

ومن نواقض شهادة أن محمداً رسول الله، الطعن فيما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما هو معلوم من الدين بالضرورة إما بإنكاره أو انتقاصه. والأمثلة على ذلك كثيرة منها: أن يعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، وأن حكم غيره أحسن من حكمه؛ كالذين يفضلون القانون الوضعي على حكم الشرع، ويصفون الشريعة الإسلامية بالقصور والرجعية، وعدم مسايرة التطور، وهذا من أعظـم المناقضة لشهادة أن محمداً رسول الله.

أمة الإسـلام: إضافة إلى هذه النواقض فإن شهادة أن محمداً رسول الله  صلى الله عليه وسلم تنقض بنو اقض الإسلام الأخرى، وهي كما ذكرها العلامة محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – عشرة حيث قال : اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض: الأول: الشرك في عبادة الله تعالى؛ قال الله – تعالى- :{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء }سورة النساء: 116. وقال : {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار ٍ}سورة المائدة: 72.ومنه الذبح لغير الله؛ كمن يذبح للجن أو للقبر.

الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم كفر إجماعاً .

الثالث: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهـم أو صحح مذهبهم كفر.

الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أعلى من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر.

الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به كفر.

السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثوابه أو عقابه كفر…

السابع: السحـر، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى : {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ }سورة البقرة: 102.

الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}سورة المائدة: 51.

التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه للخروج عن شريعـة محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما وسع الخضر الخروج عن شريعـة موسى عليه السلام فهو كافر.

العاشر: الإعراض عن دين الله – تعالى- لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ}سورة السجدة: 22. ولا فرق بين جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطراً، وأكثر ما يكون وقديماً، فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم19.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 


 


1– مجموع الفتاوى (19/103).ط: دار العربية –  بيروت

2 – مجموع الفتاوى 8/638- 639.

3 – انظر تيسير العزيز الحميد صـ 58 لناشر المكتبة السلفية.

4 – الأصول الثلاثة للشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله- (ص 9) ضمن مجموعة الرسائل المفيدة، ط: مطبعة الكيلاني.

5 – معارج القبول حافظ حكمي 1/382. ط: المكتبة السلفية ومكتبتها.

6 – المصدر السابق 1/381.

7 – تفسير ابن كثير 3/404 .ط: دار المعرفة – بيروت – لبنان، عام 1402هـ.

 

8 – معارج القبول 1/383، ط: المطبعة السلفية ومكتبتها.

9 – تفسير القرطبي 8/95، ط: دار إحياء التراث العربي.

10 – تفسير ابن كثير 3/450.

11 – الشفاء للقاضي عياض 2/932  الناشر دار الكتاب العربي – بيروت – 1404هـ. تحقيق علي محمد البجاوي.

 

12 – الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية : 4- 8  بتصرف. ط: مطابع الحرس الوطني.

13 – تفسير ابن كثير 2/367.

14 – الصارم المسلول 30-31.

15 -المصدر السابق صـ (41).

16 – المصدر السابق صـ 40 -41  بتصرف.

17 – الصارم المسلول صـ 3 – 4.

18 – المصدر السابق صـ (293- 294).

19 – الجامع الفريد 282-284 رسالة نواقض الإسلام للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ط: مطبعة المدينة – الرياض.