تذكر الموت

تذكر الموت

الخطبة الأولى: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله يا نفسُ ما بالك قد تماديتِ في المنكرات، وتهاونتِ في فعل الخيرات، وتركتِ سبيل المكرمات، حتى متِّ مع من مات، دعيني والأماني، دعيني أسكب العبرات، دعيني أتذكر مآلي، وأتفكر في حالي

دعيني أطفي عبرتي ما بدا ليا  وأبكي ذنوبي اليوم إن كنت باكيا 
وليس لذنبي من دواء سوى البكا وتوبة ذي صدق وعفوِ إلهيا
هبيني نسيت الموت والبعث فينة وما كان من علم الغيوب ورائيا
ألم أعتبر نفسي ونقصان قوتي ولم أكُ للموتِ المشاهدِ ناسيا
وبدلت نقصاناً بدا في جوارحي وجاء نذير الشيب للنفس ناعيا
فوا عجباً من غافل غير عاقل يجدد من دنياه ما صار باليا
ويعمر ما قد خرب الدهر قبله ويتبع تسويفاً له وأمانيا
ومن هرم يزداد ضعفاً وقلة وآماله يرمي بهن المراميا

نعم أيها المسلمون كم نغفل عن ذكر الموت، ونمضي في أمان وسهوٍ، ونحن نجهل أيان تقض أرواحنا من أجسادنا، وتنزع الحياة من عروقنا، هل ضمنا الأبدية؟ أم هل أمنَّا الحياة الأخروية؟ ياعجباه! كان من هو خير منا أكثر ذكراً للموت فعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ1.

وهذه وصية منه  لكم عباد الله لما يعلم من أهوال الموت، وسكرات الموت، فإن من أكثر ذكر الموت صغرت الدنيا في عينيه، وهانت في نفسه؛ ففي ذكر الموت علاج الأبدان، ودواء الأنفس، وتربية الطباع، وزكاء النفوس.

فمهما تواردت المشاغل، وتزاحمت الأعمال لا بد من تذكر الموت، فنبي الله إبراهيم ويعقوب – عليهما السلام – يتذكران الموت وهما من هما وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132] أي تذكروا الموت إنه آتيكم فلا يأتيكم إلا وأنتم على الإسلام، وبهذا وصى الله المتقين حيث قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].

رحم الله السلف كانوا يتذاكرون الموت حتى كأنهم على شفير القبر، وتهزهم المواعظ، ويفزعهم ذكر الآخرة، ويوقظهم ادِّكار الموت، كانوا يستحضرون قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

كتب عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – إلى بعض عماله: “أما بعد: فكأنَّ العباد قد عادوا إلى الله لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]، فإنه لا معقب لحكمه، ولا ينازع في أمره، ولا يقاطع في حقه الذي استحفظه عباده، وأوصاهم به، وإني أوصيك بتقوى الله، وأحثك على الشكر فيما اصطنع عندك من نعمة، وآتاك من كرامة، فإن نعمه يمدها شكره، ويقطعها كفره، أكثر ذكر الموت الذي لا تدري متى يغشاك، ولا مناص ولا فوت، وأكثر من ذكر يوم القيامة وشدته، ثم كن مما أوتيت من الدنيا على وجلٍ، فإن من لا يحذر ذلك ولا يتخوفه توشك الصرعة أن تدركه في الغفلة، وأكثر النظر في عملك في دنياك بالذي أمرت به، ثم اقتصر عليه”2.

وكان عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – يجمع الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة فيبكون كأن بين أيديهم جنازة.

وقال اللفَّافُ – رحمه الله -: “من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسيه عوقب بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة، فتفكر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته.

فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حكم ما أعدله، فكفى بالموت مفزعاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقًا للجماعات، وهاذماً للذات، وقاطعاً للأمنيات؛ فإنه ما ذكره أحد في ضيق كفقر ومرض، وحبس ومصائب الأنفس والأولاد، والأموال والأقارب؛ إلا وسعه وصيره واسعاً، إما لأنه يذكر بأن النعم ليست ملكاً له، بل فانية ليس لها دوام، وإما للأجر فيما بعد الموت بالصبر.

ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه؛ لعلمه بمفارقتها ومحاسبته أو مناقشته، ولإشعاره أن ما في يده مستعارًا له، والملك لغيره، ونفسه عبد خادم له.

قال الغزالي: “الموت خطر هائل، وخطب عظيم، وغفلة الناس عنه أعظم لقلة فكرهم فيه، ومن ذكره لا يذكره على حرية بقلب فارغ بل بشغل الشهوات”3.

أيها المؤمنون: يصور لنا الله الموتَ وموقفنا ونحن نعاينه بقوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61]

الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الموت ما الدارُ

انظروا كم مات فينا من شاب فتيٍّ، وكم من غني منعم تحت التراب دفناه، وكم ذي عشيرة ومنصب نعيناه، وكم عزيز علينا واريناه، وكم من متجبرٍ خطفت روحه خطفاً، وكم من حبيب نزعت أنفاسه من بيننا، لم ندفع عنه قيد أنملة، ولم يغنِ عن الظالم ظلمه، ولم يعن الزعيم أعوانه، اخترمته المنية، واستلبت روحه

جاءته من قِبَلِ المنون إشارةٌ  فهوى صريعاً لليدينِ وللفمِ 
ورمى بمحكمِ درعِهِ وبرمحِهِ  وامتد ملقىً كالفتيق الأعظمِ 
لا يستجيبُ لصارخٍ إنْ يدعُهُ أبداً ولا يُرْجى لخطبٍ معظمِ
ذهبتْ بسالته ومرَّ غرامُهُ لمَّا رأى حبل المنيةِ يرتمي
يا ويحَهُ من فارسٍ ما بالهُ ذهبتْ مروته ولمَّا يُكْلَمِ
هذي يداهُ وهذه أعضاؤهُ ما منه من عضوٍ غداً بمثلمِ
هيهاتَ ما حبلُ الردى محتاجة للمشرفي ولا اللسانِ اللهذمِ
هي ويحكم أمرُ الإله وحكمُهُ والله يقضي بالقضاءِ المحكَمِ
يا حسرتا لو كان يقدرُ قدرَها ومصيبة عظمت ولمَّا تعظمِ
خبرٌ علمنا كلنا بمكانهِ وكأننا في حالنا لم نعلمِ4

فلا تتهاون أخي في هذا الشأن، واذكر ما من أحد حولك إلا وقد أصيب بمصيبة الموت، ولم يكن له محيد ولا مفر

ولا تقل الصبا فيه امتهالٌ وفكر كم صغيرٍ قد دفنتا

وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93].

فهذا حالك أخي المسلم لو تأملت لوجدت الله – تعالى – يخبرك بحياتك، وأنك بينما أنت في قوة وبأس شديد، وصلابة بدن ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ [المؤمنون:15].

رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، وصلى الله على نبيه ومن والاه يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ۝ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:33-34]. عباد الله: أكثروا من ذكر هاذم اللذات، واعلموا أن أحداً لا يدري أخارج من هذا المسجد أم لا؟ والله ما يدري أحدنا أمتمٌ أنفاسه هذه أم سوف تنزع روحه من بين جنبيه في هذه اللحظات، وانظروا إلى حال السلف – رحمهم الله – كيف كانوا يكثرون من ذكر الموت، ويجعلونه نصب أعينهم ليل نهار.

جاء عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – أنها قَالَتْ: “أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ  فَقَالَ النَّبِيُّ : مَرْحَبًا بِابْنَتِي ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ، فَقُلْتُ لَهَا: لِمَ تَبْكِينَ؟ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا، فَضَحِكَتْ فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ، فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ  حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ  فَسَأَلْتُهَا فَقَالَتْ: أَسَرَّ إِلَيَّ: إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ”5.

وعَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – زَوْجِ النَّبِيِّ  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ؟ فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ6.

وعن يحيى بن أبي كثير أن أبا بكر الصديق  كان يقول في خطبته: “أين الوضاءة الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم، أين الملوك الذين بنوا المدائن، وحصنوها بالحيطان، أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب؛ قد تضعضع أركانهم، حين أضنى بهم الدهر، وأصبحوا في ظلمات القبور، الوحا الوحا (أي: البدار البدار)، ثم النجا النجا”7.

وعن يوسف بن أسباط: كان سفيان الثوري إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم8، وقال أبو نعيم: كان سفيان الثوري إذا ذكر الموت لم يُنتفع به أياماً9. وها هو البكاء ابن البكاء علي بن الفضيل بن عياض كان إذا ذكر الموت أو شيئاً من أمور الآخرة بكى وخر صريعاً، قال أبو بكر بن عياش: “صليت خلف فضيل بن عياض المغرب، وابنه علي إلى جانبي، فقرأ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] فلما قال: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر:6] سقط عليٌ على وجهه مغشياً عليه، وبقي فضيل عند الآية، فقلت في نفسي: ويحكِ أما عندكِ من الخوف ما عند الفضيلِ وعلي!، فلم أزل أنتظر عليًا، فما أفاق إلى ثلث من الليل بقي، وفي رواية: وبقي فضيل لا يجاوز الآية، ثم صلى بنا صلاة خائف، وقال: فما أفاق إلى نصف من الليل”10.

عباد الله: إن الموت آتٍ لا محالة، وما منا إلا وله يوم موعود، فلنكثر من ذكر الموت، ولنستعد لذلك اليوم الشديد، وليكن دأبنا ذكر الموت، فإن ذلك سيورث في نفوسنا مراقبة الله، ومحاسبة النفس، ومراقبة العمل أولاً بأول، فلا يكاد يوجد قول ولا عمل إلا بعد تفكر طويل حياء من الله، وخوفاً من الموت، وترقباً للأجل.

وإن ترقب الموت وتذكره سيورث الطمأنينة في القلب، والتسليم المطلق لله – تعالى -، فلا يحزننا بعد ذلك شيء، ولا يطيش بنا فرح على شيء، وهذا رأس الحلم، وجذر التقى. اللهم اجعلنا ممن يبادر الفوت، ويراقب الموت، ويتأهب للرحلة قبل الممات، وينتفع بما سمع من العظات، بمنك وكرمك.

والحمد لله رب العالمين.


1 رواه ابن ماجه (4248) وقال الألباني: “صحيح” انظر حديث رقم (1210) في صحيح الجامع.

2حلية الأولياء (2/387).

3 بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية (3/26).

4 التذكرة للقرطبي (1/2).

5 صحيح البخاري (3353)، ومسلم (4487) واللفظ للبخاري.

6 صحيح البخاري (789)، ومسلم (925).

7 شعب الإيمان للبيهقي (10199).

8 سير أعلام النبلاء (7/242).

9 سير أعلام النبلاء (7/276).

10 سير أعلام النبلاء (8/443-444).