أيها المساكين.. تعزوا بالرسول القائد

أيها المساكين.. تعزوا بالرسول القائد

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الفقير والمسكين عندما يسمع أن هناك ناساً مثله في التعب والمعاناة فإن نفسه تهدأ وتطمئن وتصبر وترضى بقضاء الله.. أما عند ما يعيش في بيئات متناقضة: غنىً مطغي، وفقر منسي، فإن ذلك يقوده إلى الهم والغم والبلاء والنكد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. فعندما يُذكر حال نبينا عليه السلام وهو أفضل الخلق، تتعزى النفوس به، وتقتدي به، وتصبر، ويكون لها في ذلك تمام الأجر؛ لأنها تقتدي بنبيها، وصدق الله العظيم: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10]. وسأذكِّر العبد الفقير بحال الرسول، وعلى من سمع مثل هذه الأحاديث أن يبثها للناس خاصة فقراؤهم، فإن فيها من العزاء ما يكفي -بإذن الله-.

ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم:

روى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهو يحفر، ونحن ننقل التراب ويمر بنا، فقال: ((اللهم لا عيش إلا عيـش الآخـرة، فاغفـر للأنصـار والمهـاجـرة))1.

وروى البخاري عن أبي هريرة أنه كان يقول: ‏‏ ‏آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر ‏أبو بكر ‏ ‏فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي ‏‏عمر ‏فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني فمر فلم يفعل، ثم مر بي ‏أبو القاسم صلى الله عليه وسلم‏ فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: ((يا أبا هر‏))‏ قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((الْحَقْ)) ومضى، فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبناً في قدح، فقال: ((من أين هذا اللبن؟)) قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة قال: ‏((أبا هر))‏ ‏قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((الحق إلى ‏أهل الصفة ‏‏فادعهم لي)) قال:‏ ‏وأهل الصفة‏ ‏أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في‏ ‏أهل الصفة! ‏كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم! وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن!! ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله ‏بد، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: ((يا ‏‏أبا هر))‏‏ قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((‏خذ فأعطهم)) قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏ ‏وقد روي القوم كلهم! فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم! فقال: ‏((‏أبا هر)) ‏قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((بقيت أنا وأنت)) قلت: صدقت يا رسول الله، قال: ((اقعد فاشرب)) فقعدت فشربت، فقال: ((اشرب)) فشربت، فما زال يقول: ((اشرب)) حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً، قال: ((فأرني)) فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى، وشرب الفضلة)2.

فهذا حديث عظيم وموقف عجيب! يدلنا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من القلة والفقر، مع أنهم كانوا حماة الدين، وقوة الإسلام، وجند الله، نشروا الدين في مشارق الأرض ومغاربها.. إن المشكلة ليست في ضعف المال وقلته، أو ضعف الجسم ونحوله، ولكن المشكلة كلها في ضعف القلوب عن المضي قدماً لطلب الدار الآخرة والجنة العالية!!

وعندما يعمل الإنسان عقله ملياً في التفكير بذلك الوضع الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه فإن الأمر لا يعدو كون هذه الحياة ابتلاءً، إن أصاب العبد خير وسراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابه شر أو ضراء صبر فكان خيراً له.. كما قال صلى الله عليه وسلم: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له))3.

ثم لننظر إلى حياة الرسول من حيث نظرته إلى الدنيا.. روى البخاري عن عائشة قالت: "ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر"4.

وعنها قالت: "كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم وحشوه من ليف"5.. والأدم: هو الجلد، والليف: ما يوضع داخل الفرش والوسائد على العادة والعرف القديم، وهو معروف، وهو خشن لا راحة فيه إلا قليلاً.

وقال قتادة: "كنا نأتي أنس بن مالك وخبازه قائم، وقال: كلوا، فما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق بالله ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط)6. وقول أنس: ولا رأى شاة، أي أنه إذا لم يرها فمن باب أولى ألا يطعمها، وهذا يدل على التخفف من الحياة مع أن القلب مطمئن بالله والقرب منه، وكفى بهذا راحة، وكل راحة سوى ذلك فإنما هي آنية تزول بزوال المرغوب الآفل.. ولا قوة إلا بالله.. وقوله: سميطاً أي مشوية.

وقد دلنا الرسول صلى الله عليه وسلم على قاعدة عظيمة كافية في راحة البال، وشكر الله على كل حال، وهذه القاعدة هي: أن ينظر العبـد في أمور الدنيا إلى من هو أقل منه؛ لأن ذلك يؤدي إلى شكر النعمة وعدم كفرها واحتقارها.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منـه))7، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم السبب من النظر إلى من هو أقل مالاً فقال: ((انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم))8.

وهنا سر عجيب في الحديث وهو: أن النفس تحب الزيادة والمال الكثير، وغالباً ما تمد عينيها إلى أهل الثروة والمال، فذلك يسبب احتقار الإنسان ما بيده والطمع فيما عند الناس، فلهذا أرشد الرسول من نظر إلى أهل المال والنعمة والثروة أن يذهب فينظر إلى من هو دونه كي يزول ذلك الطمع وكفر النعمة..

فكأن النظر إلى من هو فوقه في أمور الدنيا مرض خطير، وعلاجه أن ينظر إلى من هو أسفل منـه..

اللهم وفقنا لطاعتك واصرف عنا معصيتك، واهدنا سبل الرشاد، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، يا أرحم الراحمين.. آمين اللهم آمين، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه البخاري (6051).

2 رواه البخاري (5971).

3 رواه مسلم (2999).

4 رواه البخاري (6090).

5 رواه البخاري (6091).

6 رواه البخاري (5105).

7 رواه البخاري (6125)، ومسلم (2963).

8 رواه مسلم (2963).