التبرج والسفور

التبرج والسفور

 

الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على الهادي البشير، والسراج المنير، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها المسلمون: اتقوا الله في نسائكم وبناتكم وأخواتكم وزوجاتكم، وألزموهن القرار في البيوت، وأبعدوهن عن التبرج والسفور؛ فإن ذلك مما أمر الله به.

عباد الله: إن المتأمل هذه الأيام يرى أن كثيراً من النساء قد تبرجن، وألقين الحجاب والحشمة عنهن؛ وكأنه لا رقيب عليهن من أحد، حتى أصبحت المرأة تتشبه بالنساء الساقطات السافرات اللواتي خلعن الحياء وانسللن من دينهن، تحت مسميات وشعارات جوفاء عديدة، وهذا والله الذي لا يحلف إلا به خطر عظيم، وشر مستطير، أوجب الله على جميع نساء المؤمنين البعد عنه، وألزمهن بالحجاب الشرعي الساتر لجميع البدن، بما في ذلك الوجه والكفين، والساتر لجميع الزينة المكتسبة من ثياب وحلي وغيرها عن كل رجل أجنبي، وذلك بالأدلة القرآنية، والأحاديث النبوية.

أيها المؤمنون: لقد دل صريح الكتاب العزيز، وصحيح السنة المطهرة وصريحها، وإجماع الأمة على تحريم التبرج والسفور، قال الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33]. نهى عن التبرج، وبين أنه من صنيع الجاهلية الأولى. وتبرج الجاهلية الأولى كما يقول مجاهد رحمه الله: كانت المرأة تخرج بين الرجال، فذلك تبرج الجاهلية الأولى. وقال قتادة: كانت لهنَّ مشية تكسّر وتغنج فنهى الله تعالى عن ذلك. وقال مقاتل بن حيان: التبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشدّه فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، فذلك هو تبرج الجاهلية الذي نهى الله عز وجل النساء المؤمنات أن يفعلنه.

وأما في زمننا فإن النساء قد جمعن بين تبرج الجاهلية الأولى والحاضرة، -والله المستعان– فقد تركت النساء العباءة في كثير من المجتمعات الغربية والشرقية بل وفي كثير من بلدان الإسلام، وكشفن الرأس والعنق واليدين إلى الكتف، وكشفن الظهر والساقين، بل الفخذين، ومع هذا كله يضعن على بشرتهن من المساحيق التي تحسّن صورة المرأة القبيحة في نظر الرجال. فأي الجاهليتين أحق بالتحريم والتأثيم؟!. لا ريب ولا شك أنها الجاهلية التي نعيشها اليوم بكل صورها. وقال الله: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 32-33]. نهى عن الخضوع بالقول، وأمر بالقرار في البيت، وذلك لأن المرأة عورة؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من ربها إذا هي في قعر بيتها))1 . وقال الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا}[الأحزاب: 53]. روي أنه لمَّا نزلت هذه الآية حجب النبي نساءه، وحجب الصحابة نساءهم، بستر وجوههن وسائر البدن والزينة المكتسبة، وفي قوله عز وجل: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} علة وبيان لحكمة فرض الحجاب. وقال الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}[الأحزاب: 59]. وقد امتثلت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ونساء المهاجرين ذلك الأمر الإلهي مباشرة؛ عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت: {يدنين عليهن من جلابيبهن} خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية2. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَل، لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}. شققن مروطهن فاختمرن بها3. وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والـحُيَّض وذوات الخدور، أمَّـا الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها"4. وقال الله عز وجل: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور: 30-31]. أمر الله في هاتين الآيتين بغضِّ البصر، وحفظ الفرج على الرجال والنساء على حدٍّ سواء، وذاك لأن النظر بريد الزنا، ولعظم فاحشة الزنا، وبين الله أن غض البصر وحفظ الفرج أزكى للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وإن حفظ الفرج لا يتم إلا ببذل أسباب السلامة والوقاية، ومن أعظمها وأهمها غض البصر، ولا يتم غض البصر إلاّ بالحجاب التام لجميع البدن، ولا يشك عاقل أن كشف الوجه سبب للنظر إليه، والتلذذ به، والعينان تزنيان وزناهما النظر، ولهذا أمر الله بالحجاب في آيات كثيرة.

أيها الناس: لنسمع ونرى كيف امتثل نساء الصحابة الفاضلات هذه الأوامر الإلهية؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذَوا بنا سَدَلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه5. وعنها قالت: كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس6. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله: ((من جرَّ ثوبه خُيَلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: ((يرخين شبراً)) فقالت: إذاً تنكشف أقدامهن؟ قال: ((يرخينه ذراعاً لا يزدن عليه))7 .

أيها المؤمنات: إنَّ للحجاب فضائل عديدة، وحكم سديدة؛ من أهمها وأعظمها؛ امتثال أمر الله وأمر رسوله، فإن الله تعبد النساء بارتداء الحجاب الساتر لجميع البدن، قال الله -مبيناً أنه إذا قضى أمراً فإن على المؤمنين والمؤمنات التسليم والتطبيق-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]. ثم إن في الحجاب حفظاً للعرض، ودفعاً لأسباب الرِّيبة والفتنة، وطهارة للقلوب وتزكيتها، قال الله: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}. وغير ذلك من الفوائد الحاصلة لمن امتثلت أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، اللهم أصلح نساء المسلمين من كيد الكائدين وزيغ الفجار والمنحرفين. اللهم اغفر وارحم وأنت خير الراحمين..

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأطعم وكسا، وأغنى وأقنى، والصلاة والسلام على خير الورى، ما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن بهديهم اهتدى. أما بعد:

أيها المسلمون: لقد أجمع المسلمون على تحريم التبرج والسفور. ولبعضهم قصيدة جميلة يرد فيها على دعاة التبرج والسفور يقول في مطلعها:

مَنع السُّفُورَ كتابُنا ونبيُّنا *** فاسْتَنْطِقي الآثارَ والآياتِ

ألا فليحذر المسلم من تبرج نسائه ومحارمه وبناته، ومن له عليهنَّ ولاية وسلطة، وليقيهن من النار، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم: 6]. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، وَالرجلُ راع في أَهله وهو مسْؤول عن رعيته، والمرأَة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادمُ راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته...))8.

أيها المسلمون: ألا فلنحذر من تبرج النساء فإن في ذلك مفاسد عظيمة، وأخطار جسيمة؛ فإن التبرج معصية لله ولرسوله؛ لأن الله ورسوله أمرا بالحجاب والحشمة والعفة والحياء: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}[الأحزاب: 36]. والتبرج كبيرة من كبائر الذنوب المهلكة؛ فعن أميمة بنت رقيقة أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام، فقال: ((أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئاً، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى))9. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها))10. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلعن المتبرجات؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرجال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف العنوهن فإنهن ملعونات، لو كان وراءكم أمة من الأمم خدمهن نساؤكم، كما خدمكم نساء الأمم قبلكم))11.

أيها المسلمون: إن التبرج لم يأتنا إلا من اليهود والنصارى، فهو من سننهم، فقد ذكر اليهود في بروتوكولاتهم أنه يجب أن تخضع لنا جميع شعوب العالم عن طريق حرب الأخلاق، وتقويض نظام الأسرة بشتى الوسائل المتاحة، وفعلاً لقد نجحوا في تخريب الأخلاق، وهدم الأسر، وذلك بما يعرضونه ويقدمونه للمسلمين عبر وسائل الأعلام المختلفة. نسأل الله العافية السلامة. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

ألا وصلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير، عملا بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه ابن حبان (5599).

2 رواه أبو داود (4101)، وصححه الألباني.

3 رواه البخاري (4480).

4 رواه البخاري (344) ومسلم (890) واللفظ له.

5 رواه أحمد (24021) وأبو داود (1835) وضعفه الألباني.

6 رواه البخاري (553)، ومسلم (645)، واللفظ للبخاري.

7 رواه النسائي (5336)، والترمذي (1731)، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني.

8 رواه البخاري (853).

9 رواه أحمد (6850)، وقال محققوه: صحيح لغيره.

10 رواه مسلم (2128).

11 رواه ابن حبان (5753)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2683).