التمسك بمنهج السلف الصالح

التمسك بمنهج السلف الصالح (فَبِهُداهم اقْتده)

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد: عباد الله: لقد بعث الله رسوله  على حين فترة من الرسل، استمرت هذه الفترة أكثر من خمس مئة سنة بعد رفع المسيح عيسى بن مريم ، كان الناس خلالها في ظلام دامس، وجاهلية جهلاء، ولما كان الأمر كذلك أذن الله أن يبعث للعالم أجمع رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويطهرهم من دنس الوثنية والطاغوت، ودنس الخطيئات، فقام محمد رسول الله  بهذه الرسالة التي أمره ربه ​​​​​​​ بها، وأداها كما أمره، وتبعه أناس على ذلك في أول أمره، ثم تتابع الناس، ودخلوا في دين الله أفواجاً، وحمل هذا الدين رجال صادقون مخلصون، رجال هم خير هذه الأمة بعد نبينا محمد  ، كانوا  قدوات لمن بعدهم، وأسوة لمن تبعهم، ومهما حاول الناس في زمننا الاقتداء بغيرهم فإنما يبحثون وراء سراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، فقد قال : خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون من بعدهم قوم يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يُؤتمنون، ويُنذرون ولا يُوفون، ويَظهر فيهم السِّمَنُ1، ولما كانوا أفضل القرون جاء يوماً ووعظهم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة2، وقال: اقتدوا بالذين من بعدي من أصحابي: أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود3.

وهنا أحاديث كثيرة تأمر الأمة كلها بالتمسك بمنهج السابقين الأولين من الصحابة، والتابعين، وعلماء الإسلام المرضيين عبر العصور، والسنين.

عباد الله: لا يمكن أن تقوم للأمة قائمة حتى تعود إلى عزتها، وكرامتها، ومنهج سلفها، وقد كتب الله على هذه الأمة الذل إن هي تركت دينها ومنهجها، وجرت وراء أعدائها؛ تأخذ منهم كل ما يخالف أصول دينها، وأسس عقيدتها، وقد أخبرنا الرسول  أنه لا يمكننا الخروج من الذل والمهانة التي نحن فيها، والتمزق المشين الذي تعانيه الأمة المحمدية اليوم إلا بالرجوع إلى ديننا، والتمسك بهدي سلفنا الصالح، حيث قال: إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم4، وقد أعلنها عمر بن الخطاب  صريحة مدوية حين قال: “أنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله”5 فهذا هو الحل الوحيد، ومهما ابتغت الأمة الحل بدونه فإنما تعمل في سراب، وتبني ما مآله إلى الخراب.

لقد أراد كثير من أبناء جلدتنا الاعتزاز بأمور ابتدعوها من أنفسهم، ونسوا أنهم يعيشون في بلاد إسلامية! لقد أتوا بمبادئ كفرية لا تمت إلى الإسلام بصلة، لكن سرعان ما تبخرت وذهبت أدراج الرياح! أتونا بالقومية لنتوحد على أساسها، ولم ينظروا إلى الدين والعقيدة، فتمزقنا وتفرقنا دويلات صغيرة، كل دولة تناضل عن نفسها، وتبيع أختها بيعاً رخيصاً لمصالح شخصية تباع الأوطان، ويتفرق الإخوان!! بل وتمزقت تلك الدول في داخلها إلى شيع وأحزاب يأكل بعضها بعضاً، ويطعن بعضها في بعض: فذاك اشتراكي، وذاك ناصري، وهذا بعثي، وهذا وطني .. إلخ، و

كل يدعي وصلاً لليلى  وليلى لا تقر لهم بذاكَ 

نعم .. لما ابتغى هؤلاء العزة بغير الإسلام أذلهم الله، وإننا بريؤون كل البراءة من كل مبدأ يخالف الإسلام، ويتجرأ عليه؛ ولو تسمى بمسميات إسلامية، وشعارات في ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب..

إن أعظم ما يعيد للأمة مجدها هو رجوعها إلى الطريق المستقيم، لأنها خير أمة أخرجت للناس .. رجوعها في عقيدتها، وفي عباداتها، وفي معاملاتها، وفي أخلاقها، وفي علاقاتها بالآخرين، وفي شؤون حياتها كلها .. وإننا نرى اليوم ما يتقطع له القلب حسرات، وما يندى له الجبين من الاختلاط الرهيب، والتمييع العجيب الذي وصل بفئام من أمة الإسلام، حيث اختلط الحق بالباطل، والعالي بالسافل، والمؤمن بالغافل، لم يعد يميز كثير من أبناء الأمة عن غيرهم إلا مجرد كون ديانته (مسلماً) في البطاقة، أو جواز سفره، أما أخلاقه وأفكاره، وآماله ولباسه، وزيه وهيئته؛ فكلها غربية أو شرقية!!

إن الهدف الذي يجب أن تسعى إليه أمة محمد اليوم هدف عظيم، طالما غفلت عنه سنوات وقرون من الدهر! ولا بد أن تسلك الطريق الحق حتى تصل إلى ذلك الهدف .. إن الطريق إلى ذلك المبتغى هو طريق السلف الصالح الذي يذكرنا بأيامٍ عند ذكرها اليوم نتصورها ونظنها ضرباً من الخيال؛ وذلك للبعد الشاسع بين ما كانوا عليه وما نحن عليه اليوم.

وليس المقصود برجوع الأمة إلى منهج سلفها الصالح ما يفهمه كثير من المغرر بهم، والضالين عن صراط الله؛ ممن يستمعون إلى شبهات اليهود، والنصارى، والمنافقين؛ من أن المقصود بذلك: الجمود على الماضي، والعودة بنا إلى العصر الحجري، أو إلى ركوب الجمال والخيول، والبغال والحمير! وما أشبه ذلك من الشبه الساقطة عند أول حجة!

أيها الناس: إن العودة التي نقصدها هي أن تكون حياتنا كلها لله، وأن تتميز الأمة عن غيرها بدينها، ومبادئها، وأخلاقها، وأن تستفيد من الآخرين فيما لا يتعارض مع دينها كالاستفادة في مجال الإبداع والاختراع، والتطور التقني والعسكري وما أشبه ذلك .. إن العودة إلى سابق العهد لا يتنافى مع إبداع العصر، واختراع العصر، وتقدم العصر، ومن يربط بين عودة الأمة إلى عهدها السابق، وبين التخلف فهو مغرر به جاهل، لا يفهم من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه!

ونحن لا ننسى أن الحضارة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم من الأئمة المرضيين – إلى عهود ليست بالبعيدة – كانت الرائدة في مجالات عديدة، مع حفاظها على مبادئها وتميزها بين الأمم، في حين كانت دول الكفر في أوروبا تهيم في الجهل، والبدعة، والخرافة، إلى أن جاء هذا العصر! فتنكرت الأمة لماضيها، وافتخرت بما هي عليه من استجداء الآخرين، والأخذ منهم، والاعتماد على أعدائها في كافة أمورها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وإن المنهج الذي يجب أن تسير الأمة عليه ليس من صنع البشر، ولا أفكارهم وآرائهم، بل هو منطلق من لا إله إلا الله كلمة التوحيد، التي هي منهج حياة شامل على فهم سلف الأمة من الصحابة الكرام، والتابعين لهم بإحسان.

نسأل الله أن يهدينا إلى صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين .. والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي هدانا لدينه، وبصرنا بسنة نبيه، وصلى الله على محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم، أما بعد:

لقد تميز منهج السلف الصالح  باتباع القرآن والسنة النبوية، والسير على ما كان عليه الرسول  من غير ابتداع، بخلاف الفرق الأخرى التي ابتدعت في الدين بدعاً كثيرة ضلت بسببها عن طريق الله .. إن أهل السنة والجماعة تُميِّزهم عن غيرهم من أهل البدعة والخلاف ميزة هامة هي: اتباع الدليل، وترك أقاويل الناس إذا خالفت قول الله، وقول الرسول .. وقد فهم السلف الصالح من خلال كلام الله، وكلام رسول الله  أن العبادة لا تقبل إلا بشرطين:

أحدهما: أن لا يعبد إلا الله، الثاني: أن لا يعبد إلا بما أمر وشرع، لا يعبده بغير ذلك من الأهواء، والظنون، والبدع قال تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، وقال: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:12]، وكان عمر بن الخطاب  يقول: “اللهم اجعل عملي صالحاً، واجعله لك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً)6، وقال الفضيل بن عياض – رحمه الله – في قول الله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[الملك:2] قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة)7، ومن هذا المنطلق نقول: إن الحياة كلها عبادة بشرطين: أن تكون تلك الحياة، وتصرفاتها، وتقلباتها؛ لله، وأن تكون على شرع الله ​​​​​​​ ، وسنة رسول الله .

إن الناس اليوم – إلا من رحم الله – لم يعد لديهم الفهم الكامل في شمولية منهج لا إله إلا الله للحياة كلها، حيث اقتصرت العبادة عندهم على شعائر الإسلام التي تؤدى في الأيام أو المناسبات، وهذه الشعائر أجلُّ شعائر الإسلام، وأساس الدين .. لكن هل يليق بمسلم أن يكون في المسجد عابداً، وفي خارجه عاصياً فاجراً .. إن هذا ما يشتكى منه من بني جنسنا اليوم، فما هو في المساجد يخالَف في واقع الناس، لهذا نجد الفرق الشاسع بين منهج السلف الذي نريد إحياءه اليوم، والسير على خطاهم، وبين أفعال الخلف، وما اعتراها من ضمور وتلف.

لا يمكن للأمة أن تستعيد مجدها إلا بالسير على نهج سلفها الصالحين من الصحابة، والتابعين، وعلماء الإسلام العاملين عبر السنين والقرون الطويلة إلى يومنا هذا .. وهذا لا بد منه لأننا نرى كثيراً من الفرق البدعية لا تظهر فيهم هذه الخصوصية، وهذا المنهج، حيث أنهم يؤمنون ببعض الكتاب، ويؤولون بعضه، أو يحرفونه، أو يتجرؤون على تركه، وإهماله، والعمل وفق ما تمليه عليهم أهواؤهم، وقادتهم، ومشايخهم، ولو خالف ذلك الحق الصريح، ومن خلال الاستقراء وجدنا أن أئمة أهل السنة والجماعة يسلكون سنة الرسول ﷺ، ونهج الصحابة الكرام، والبراءة من أهل  البدع الذين أحدثوا في الدين أموراً أنكرها عليهم أئمة السلف والخلف.

هكذا فلتكن الحياة .. وبدون ذلك؛ فالهم والغم، وفقد المطلوب في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة، وصدق الله القائل: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى۝ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124]، فاتقوا الله أيها الناس، وتمسكوا بهدي نبيكم الذي يوصلكم إلى الحياة الطيبة الأبدية مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97]، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار .. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه البخاري (3450)، ومسلم (2535).

2 رواه أحمد (17145) وأبو داود (4609)، وصححه الألباني، انظر صحيح أبي داود رقم (3851).

3 رواه الترمذي (3805)، وصححه الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1233).

4 رواه أحمد في مسنده برقم ( 4593 )، وأبو داود (3003) واللفظ له، عن عبد الله بن عمر، وهو صحيح كما في صحيح أبي داود للألباني رقم (2956).

5 المستدرك (1/130).

6 كنز العمال (5041).

7 العبودية لابن تيمية ص (67-70) بتحقيق علي حسن الحلبي.