السرقة.. أحكام وآثام

السرقة

السرقة.. أحكام وآثام

الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الناس: لقد أباحت الشريعة الإسلامية كسب المال وتملكه بالوسائل الصحيحة، والطرق الشرعية المباحة، وأثبتت للإنسان حق التملك والتصرف في هذا المال.

وإثبات الشريعة الإسلامية للحقوق وللتملك يعني أن تلك الحقوق مصونة، ومحفوظة من التعدي عليها، وإلا لم يكن لإثباتها فائدة.

ومن هذه الحقوق التي عنيت الشريعة الإسلامية بحفظها، وتكفلت بصيانتها الحقوق المالية.

وفي نصوص الوحيين المتكاثرة ما يدل على ذلك؛ فمن قول مولانا-تبارك وتعالى-: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة(188). وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} سورة النساء(29). فهاتان الآيتان بعمومهما دالتان على عدم جواز التعدي على الحقوق المالية؛ فيشمل النهي فيهما التعدي على المال بأنواعه المختلفة.

أيها المسلمون: لقد أراد الله لمجتمعاتنا أن تحيا حياة كريمة، حياة الأمن والأمان، حياة يأمن كل فرد من أفراد المجتمع على نفسه وعرضه وماله، ولأجل هذا الغرض حرَّم الله الاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال؛ فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (…كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)1.

بل لقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- في أكبر اجتماع للناس، في حجة الوداع، وفي أعظم بقعة حرمة أخذ أموال الناس بالباطل، فقال كما في المتفق عليه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: (… فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا…). وقد أجمع المسلمون على أن أخذ أموال الناس وأكلها ظلماً لا يحل، وأن الله -عز وجل- حرم ذلك2. مما يبين حفظ الشريعة الإسلامية لحقوق الناس، بشتى أنواعها، وصيانتها عن الاعتداء عليها بأية صورة من صور الاعتداء.

بل لقد جعلت الشريعة الإسلامية حفظ الأموال وصيانتها من الضرورات الخمس التي يجب المحافظة عليها.

ومن جملة الأمور التي تفسد الأموال، ويسطو بها المجرمون على أموال الناس بالباطل السرقة، وهي: أخذ مال الغير خفية من حرزه من دون شبهة.

وقد جاءت النصوص بالترهيب والزجر منها، فقد كان الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذ البيعة على من أراد الدخول في الإسلام على أمور عظيمة منها تجنب العدوان على أموال الناس بالسرقة، كما في حديث عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا ولا تزنوا…)3. وقال الله له في مبايعته للنساء: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ…} سورة الممتحنة(12).

بل إن السرقة -عباد الله- قد تؤدي بصاحبها إلى النار -والعياذ بالله-، فقد جاء في حديث الكسوف عن جابر، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (لقد جيء بالنار، وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها -أي لهيبها-، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن -عصا ثني طرفها- يجرُّ قُصْبَه -أمعاءه- في النار؛ كان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به)4.

وذلك لأن السرقة تعد كبيرة من كبائر الذنوب التي توعد مرتكبها بالنار كما هو معلوم عند أهل الحق من أهل السنة والجماعة،  فقد عدها الحافظ الذهبي -رحمه الله- الكبيرة الثالثة والعشرين، ونقل عن ابن شهاب قوله: "نكل الله بالقطع في سرقة أموال الناس. والله عزيز في انتقامه من السارق حكيم فيما أوجبه من قطع يده، ولا تنفع السارق توبته إلا أن يرد ما سرقه، فإن كان مفلساً تحلل من صاحب المال"5.

أيها الناس: إن هذه الفعلة الشنيعة، والخصلة الوضيعة لا يقوم بها إلا من ضعف إيمانه، وقلت مراقبته لله، وأما المؤمن الصادق في إيمانه فإنه لا يفعل تلك الفعلة الشنيعة، بل هو أبعد من أن يفكر فيها، أو أن يتجرأ عليها؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن…)6.

بل إن رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الله لعن السارق؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)7. وكما هو معلوم أن الكبيرة : "ما يترتب عليها حد، أو توعد عليها بالنار، أو اللعنة، أو الغضب"8. لعن الله على لسان رسوله-صلى الله عليه وسلم- السارق الذي يبذل اليد الثمينة الغالية في الأشياء الرخيصة المهينة، وفيما يغضب الله -تبارك وتعالى-.

وقد اعترض الزنادقة قديماً وحديثاً على هذا الحكم، ومن هؤلاء أبو العلاء المعري فإنه لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالاً على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار، ونظم في ذلك شعراً دل على جهله وقلة عقله، فقال:

يد بخمس مئين عسجد وديت *** ما بالها قطعت في ربع دينار

تناقض مالنا إلا السكوت له! *** وأن نعوذ بمولانا من النار

ولما قال ذلك واشتهر عنه طلبه الفقهاء، فهرب منهم، وقد أجاب عنه الناس في ذلك، ومن أجاب عليه القاضي عبد الوهاب المالكي -رحمه الله- حيث قال: لما كانت أمينة كانت ثمينة ولما خانت هانت9.

وينسب إلى الإمام السخاوي قوله في الرد على المعري:

عِز الأمانة أغلاها وأرخصها *** ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري10

ومن العلماء من قال: "هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب، ولهذا قال: {جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ} أي مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك نكالا من الله أي تنكيلاً من الله بهما على ارتكاب ذلك {وَاللّهُ عَزِيزٌ} أي في انتقامه {حَكِيمٌ} أي في أمره ونهيه وشرعه وقدره"11. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد الله الكريم المنان، الرحيم الرحمن، والصلاة والسلام على سيد الأنام، وخير خلق الله على الدوام، وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد: "أمر -الله- بقطع يد السارق ذكراً كان أو أنثى عبداً أو حراً مسلماً أو غير مسلم صيانة للأموال وحفظا لها، فقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سورة المائدة (38). وقد: "بدأ الله -سبحانه وتعالى- بذكر السارق في هذه الآية قبل ذكر السارقة، وفي آية الزنا بدأ بذكر الزانية قبل الزاني؛ لأن حب المال عند الرجال أغلب من النساء، والسرقة تقع من الرجال أكثر من النساء لذلك بدأ بذكر الرجال في حد السرقة، ولما كانت شهوة الاستمتاع عند النساء أغلب فصدّرها تغليظا لتردع شهوتها، وإن كانت قد ركب فيها الحياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله، ولأن الزنا في النساء أعز وهو لأجل الحبل أضر، ولأن العار في النساء ألحق إذ موضعهن الحجب في البيوت والصيانة في المنازل فقد ذكرهن في آية الزنا تغليظا واهتماما"12.

فإذا ثبتت السرقة على شخص بعينه بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع، فإن على من ولاه الله أمر المسلمين أن يقيم الحد على السارق؛ لقوله: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}؛ وقد: "اتفق الأئمة -رحمهم الله تعالى- على أن السارق إذا وجب عليه القطع وكان ذلك أول سرقة له، وأول حد يقام عليه بالسرقة، وكان صحيح الأطراف فإنه يبدأ بقطع يده اليمنى مع مفصل الكف، ثم تحسم بالزيت المغلي، وذلك لأن السرقة تقع بالكف مباشرة والساعد والعضد يحملان الكف كما يحملهما معها البدن، والعقاب إنما يقع على العضو المباشر للجريمة، وإنما تقطع اليمنى أولا لأن التناول يكون بها في غالب الأحوال إلا ما شذ عند بعض الأفراد، ولأن الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- فعل ذلك حينما قطع يد المخزومية وغيرها ممن أقام عليهم حد السرقة، وقراءة عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى- عنه تبين الإجمال في آية السرقة، وتوضح المراد من الأيدي فإنه قرأ {فاقطعوا أيمانهما} وهذا الحكم بإجماع الأمة من غير خلاف منهم، فإن عاد وسرق مرة ثانية ووجب عليه القطع تقطع رجله اليسرى من مفصل القدم ويكوى محل القطع بالنار لينقطع نزيف الدم، أو يغمس العضو المقطوع في الزيت المغلي كما أمر الرسول -صلوات الله وسلامه عليه-، وكما فعل الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-، فقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بقطع يد السارق من الزند وقال لأصحابه: (فاقطعوه واحسموه)13.

ثم اعلموا -رحمكم الله- أن من أشد أنواع السرقة: السرقة من مال الجار أو الصاحب، أو الصديق؛ فعن المقداد بن الأسود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ما تقولون في الزنا؟) قالوا: حرام حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره) قال: (ما تقولون في السرقة؟) قالوا: حرمها الله ورسوله فهي حرام، قال: (لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره)14.

عباد الله: إن للسرقة مضار ومفاسد، فمن تلك المضار: أن السرقة تنافي كمال الإيمان، وإحدى الكبائر العظام، وهي دليل على دناءة النفس وحقارة الشأن، وتوجب النار في الآخرة والعار في الدنيا، والنكال وذلك بقطع اليد، والناس لا يأمنون السارق على شيء ولو كان تافهاً، ويحرم السارق من إجابة الدعاء15.

أيها الناس: إن الحدود إذا أقيمت في الناس، وطبقت على كل من تسول له نفسه أخذ أموال الناس بغير حق؛ لانزجر ضعاف الإيمان وارتدعوا عن ارتكاب ما حرم الله، ولعاش الناس في أمن وأمان على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولحلت بهم البركات، ونزلت عليهم الرحمات: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} سورة الأعراف(96).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا)16.

ومن الجرائم الواقعة في هذا الزمان من قبل الدول التي تزعم الإسلام هو ترك هذا الحد والنفور منه والإصغاء للكفار والمنافقين في التنفير منه وأنه من الأمور الوحشية التي لا تليق بهذا العصر..! وبعض الدول التي قد تطبق ذلك ربما تقيمه على الفقراء دون الأغنياء والزعماء.. والمعصوم -عليه الصلاة والسلام- لما رفع إليه أمر السارق أقام عليه الحد، ولم يجامل في ذلك أحدا مهما علت منزلته أو شرف نسبه، كما يفعله اليوم بعض حكام وقضاة المسلمين، فقد جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- في شأن المرأة المخزومية التي سرقت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)17. -وحاشاها أن تسرق-.

وكذلك هو الشأن في فترات الخلافة الإسلامية فقد عاش الناس آمنين على أموالهم حتى إن أصحاب التجارات والمحلات كانوا يذهبون لأداء الصلوات وأبواب محالهم مفتحة لا يخافون عدوان المعتدين.

وهذا ما قرأناه قديماً في فترة الخلافة الإسلامية، وهو ما سمعناه أيضا وقرأناه في هذا العصر عن الحكومة الإسلامية في أفغانستان لما حكمت في الناس شريعة الله. وهو كذلك ما نراه ونشاهد في بعض الدول التي يقام فيها شيء من الحدود.

لكن حينما تبعت بعض البلدان الإسلامية اليوم النظم الوضعية الغربية انتقلت إليها أوبئة الجرائم الموجودة في تلك البلدان فكثر اللصوص، وقطاع الطرق، وما إلى ذلك من أنواع الجرائم والموبقات.

نسأل الله أن يحفظ البلاد والعباد من كل مكروه وسوء، وأن ينشر الأمن والأمان والرخاء على سائر بلاد المسلمين.


 


1 رواه  مسلم.

2 انظر: مراتب الإجماع صـ(100).

3 روه البخاري ومسلم.

4 رواه مسلم.

5 الكبائر، صـ(98).

6 رواه البخاري ومسلم.

7 رواه البخاري ومسلم.

8 مدارج السالكين.

9  راجع: تفسير القرآن العظيم (2/76) لابن كثير.

10  راجع: التحرير والتنوير، لابن عاشور (6/193).

11  تفسير القرآن العظيم (2/76) لابن كثير.

12 الفقه على المذاهب الأربعة(5/67).

13 انظر: الفقه على المذاهب الأربعة(5/68).

14 رواه أحمد، وقال العلامة الألباني: صحيح"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(2549).

15 موسوعة نضرة النعيم (1/4633) بتصرف.

16 رواه ابن ماجه، وقال الألباني: "حسن"؛ كما في صحيح ابن ماجه، رقم(2057).

17 رواه البخاري ومسلم.