حكم العقيقة

حكم العقيقة

حكم العقيقة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أظهر خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة وهي قطعة لحم بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً مختلفة المقادير والأشكال والمنافع أساسا يقوم عليه هذا البناء المبين، ثم كسا العظام لحما هو لها كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين.

فسبحان من شملت قدرته كل مقدور، وجرت مشيئته في خلقه بتصاريف الأمور، وتفرد بملك السموات والأرض: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ} سورة الشورى(49). وتبارك العلي العظيم، الحليم، الكريم، السميع، البصير، العليم: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} سورة آل عمران(6). وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، إلها جلَّ عن المثيل والنظير، وتعالى عن الشريك والظهير، وتقدس عن شبه خلقه، فـ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} سورة الشورى(11).

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمنيه على وحيه، وحجته على عباده، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وكثر به بعد القلة، وأعز به بعد الذلة، وأغنى به بعد العيلة، وفتح برسالته أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة حتى وضحت شرائع الأحكام، وظهرت شرائع الإسلام، وعز حزب الرحمن وذل حزب الشيطان، فأشرق وجه الدهر حسنا، وأصبح الظلام ضياء، واهتدى كل حيران، فصلَّى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وعباده المؤمنون عليه كما وجّه لله، وعرّف به، ودعا إليه، وعليه السلام ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن الله سبحانه نوع أحكامه على الإنسان من حين خروجه إلى هذه الدار إلى حين يستقر في دار القرار، وقبل ذلك وهو في الظلمات الثلاث كانت أحكامه القدرية جارية عليه ومنتهية إليه، فلما انفصل عن أمه تعلقت به أحكامه الأمرية، وكان المخاطب بها الأبوين أو من يقوم مقامهما في تربيته والقيام عليه، فلله سبحانه فيه أحكام قيمه بها ما دام تحت كفالته فهو المطالب بها دونه، حتى إذا بلغ حد التكليف تعلقت به الأحكام، وجرت عليه الأقلام، وحكم له بأحكام أهل الكفر وأهل الإسلام، وأخذ في التأهب لمنازل السعداء أو دار الأشقياء، فتطوى به مراحل الأيام والليالي إلى الدار التي كتب من أهلها، ويسر في مراحله تلك لأسبابها واستعمل بعملها، فإذا انتهى به السير إلى آخر مرحلة أشرف منها على المسكن الذي عمر له قبل إيجاده إما منزل شقوته وإما منزل سعادته، فهناك يضع عصا السفر عن عاتقه، ويستقر نواه، وتصير دار العدل مأواه، أو دار السعادة مثواه1.

أيها الناس: لقد جاء الشرع الحنيف باستحباب العقيقة عن المولود، بل ذهب بعض العلماء إلى وجوبها.

العقيقة تعني: ذبح شاة عن المولود إن كان أنثى، وشاتين عنه إن كان ذكراً كما جاءت بذلك السنة الصحيحة.

ومن الأدلة على استحباب العقيقة ما جاء في السنة الصحية القولية والفعلية؛ فقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عق عن الحسن والحسين؛ كما في حديث ابن عباس قال: عقّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الحسن والحسين -رضي الله عنهما- بكبشين كبشين2.

وعن سلمان بن عامر الضبي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى)3.

وعن سمرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى فيه، ويحلق رأسه)4.

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة)5.

ومن الأدلة على مشروعية العقيقة واستحبابها ما جاء في الحديث الصحيح: (من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل)6. فعلقها بمحبة فاعلها، فمن أحب أن يفعل أثيب وأجر، ومن لم يفعل يأثم ولا يعاقب.

أيها الناس: ومن الأخطاء في العقيقة التي يجب تجنبها، والبعد عنها، والتحذير منها ما يفعله البعض حيث يصبون دماً من هذه العقيقة على رأس المولود، وذلك أنه لم يرد فيه أثر نبوي، ولا فعل صحابي، بل هو عمل جاهلي. فعن بريدة قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران7.

وأما ما جاء في بعض الروايات: (تذبح عنه يوم سابعه، ويُدمى) فإن ذلك غلطاً ووهماً من بعض الرواة كما أشار إلى ذلك المحققون من أهل العلم، بل الرواية المحفوظة: (ويسمى)، قال أبو داود السجستاني -رحمه الله-: “خولف همام في هذا الكلام، وهو وهم من همام، وإنما قالوا: يُسمى، فقال همام: يُدمى! قال أبو داود: وليس يؤخذ بهذا”8.

عباد الله: وأما عن الوقت الذي تستحب فيه ذبح العقيقة فهو يوم السابع، قال أبو داود في كتاب المسائل سمعت أبا عبد الله يقول: “العقيقة تذبح يوم السابع”. وقال صالح بن أحمد قال أبي في العقيقة: “تذبح يوم السابع، فإن لم يفعل ففي أربع عشرة، فإن لم يفعل ففي إحدى وعشرين”9.

وأما كونها تذبح يوم السابع فلما سبق في الحديث: (كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى فيه، ويحلق رأسه)10.

أيها المؤمنون: لقد فاضل اللطيف الخبير بين الذكر والأنثى من حيث العموم في أمور عدة، وجعل لكل منهما خصائص: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} سورة آل عمران(36). {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} سورة البقرة(228). ومن هذه المسائل التي فاضل فيها بين الذكر والأنثى: العقيقة، فقد جاءت السنة باستحباب أن يعق عن المولود الذكر شاتين، وعن الأنثى شاة؛ كما في حديث أم كرز أنها سالت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن العقيقة، فقال: (عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، لا يضركم أذكراناً كنّ أم إناثاً)11. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نعق عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة12, وهذا هو قول جمهور العلماء. وذهب الإمام مالك-رحمه الله- إلى التسوية في ذلك بين الذكر والأنثى، فقال مالك: “يذبح عن الغلام شاة واحدة، وعن الجارية شاة، والذكر والأنثى في ذلك سواء”. واحتج على ذلك بما ورد عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عقَّ عن الحسن والحسين كبشاً كبْش13. وبما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن فاطمة ذبحت عن حسن وحسين كبش14. قال مالك: “وكان عبد الله بن عمر يعق عن الغلمان والجواري من ولده شاة شاة”15.

وظاهر هذه الأقوال والنصوص أنها متعارضة، ولكن جمع بينها العلامة ابن القيم فقال: “ولا تعارض بين أحاديث التفضيل بين الذكر والأنثى، وبين حديث ابن عباس في عقيقة الحسن والحسين، فإن حديثه قد روي بلفظين، أحدهما: أنه عق عنهما كبشاً كبشاً. والثاني: أنه عق عنهما كبشين، ولعل الراوي أراد كبشين، عن كل واحد منهما، فاقتصر على قوله: كبشين، ثم روي بالمعنى كبشاً كبشاً، وذبحت أمهما عنهما كبشين، والحديثان كذلك رويا، فكان أحد الكبشين من النبي -صلى الله عليه وسلم- والثاني من فاطمة، واتفقت جميع الأحاديث.

وهذه قاعدة الشريعة فإن الله -سبحانه- فاضل بين الذكر والأنثى، وجعل الأنثى على النصف من الذكر، في المواريث، والديات، والشهادات، والعتق، والعقيقة”16. فما على المسلم والمسلمة إلا أن يسلّم بحكم اللطيف الخبير: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} سورة الأحزاب(36). أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المسلم: اعلم -رحمك الله- أنه ينبغي لك أن تعق عن ولدك وخاصة إذا كنت قادراً، بل ذهب بعض العلماء إلى وجوب ذلك.

وسواء قلنا بالوجوب أو بالاستحباب فإنه لا يليق بمن كان قادراً أن يفرط في هذه السنة النبوية، بل عليه أن يحرص عليها، وذلك لأن فعلها يعد تطبيقاً للسنة، وطاعة وقربة يتقرب بها إلى الله -تعالى- يؤجر عليها فاعلها عند الله- إن شاء الله-، قال ابن القيم وهو يتحدث عن فوائدها: “أنها قربان يقرب به عن المولود في أول أوقات خروجه إلى الدنيا، والمولود ينتفع بذلك غاية الانتفاع كما ينتفع بالدعاء له وإحضاره مواضع المناسك والإحرام عنه وغير ذلك. ومن فوائدها: أنها تفك رهان المولود فإنه مرتهن ، قال الإمام أحمد: مرتهن عن الشفاعة لوالديه. وقال عطاء بن أبي رباح: مرتهن بعقيقته، قال: يحرم شفاعة ولده. ومن فوائدها: أنها فدية يفدى بها المولود كما فدى الله -سبحانه- إسماعيل الذبيح بالكبش”17. وأما السن المجزئ في العقيقة فما يجزئ في الأضحية، فيجزئ من الضأن ستة أشهر فما فوق، ومن المعز سنة فما فوق، ومن البقر سنتان، والجمال خمس سنوات.

وذبحها، وتوزيعها، وماذا يقال عند ذبحها فكذلك نفس الأضحية، قال أبو طالب سألت أبا عبد الله: “إذا أراد الرجل أن يعق كيف يقول؟ قال: يقول باسم الله، ويذبح على النية كما يضحي بنيته، يقول: هذه عقيقة فلان بن فلان، ولهذا يقول فيها: اللهم منك ولك، ويستحب فيها ما يستحب في الأضحية من الصدقة وتفريق اللحم”18.

بل الأولى والأكمل أن تطبخ العقيقة، ثم توزع طريّة، قال ابن القيم -رحمه الله-: “وهذا -أي ضرورة طبخها- لأنه إذا طبخها، فقد كفى المساكين والجيران مؤنة الطبخ، وهو زيادة في الإحسان، وفي شكر هذه النعمة، ويتمتع الجيران والأولاد والمساكين بها هنيئة مكفية المؤنة”19.

وإذا طبخت ودعي الناس إلى البيت، أو إلى أي مكان آخر فهذا أمر جيد، وإذا وزع منها ثلثاً نيئا إلى البيوت فلا مانع من ذلك.

وفي الأخير: هناك مسألة: من لم يعق عنه أبواه هل يعق عن نفسه إذا بلغ؟

الجواب: لم يثبت في ذلك في السنة الصحيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يؤيد ذلك، ولكنه قد جاء عن بعض العلماء تجويز ذلك، فقد قال أحمد بن حنبل: “إن فعله إنسان لم أكرهه”.. وأما ما ذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عق عن نفسه فهو حديث لا يصح20.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


 


1 تحفة المودود، لابن القيم صـ(3-5). الناشر: مكتبة دار البيان – دمشق. الطبعة الأولى (1391هـ). تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط.

2 رواه النسائي، وقال الألباني: “صحيح”. وقال العلامة الألباني: “صحيح”؛ كما في صحيح الجامع، رقم(7630).

3 رواه البخاري.

4 رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وقال العلامة الألباني: “صحيح”، كما في صحيح الجامع، رقم(4541).

5 رواه رواه أحمد والترمذي وصححه، وقال العلامة الألباني: “صحيح” كما في مختصر إراء الغليل، رقم، (1166).

6 رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وقال العلامة الألباني: “صحيح”؛ كما في صحيح الجامع، رقم(7630).

7 رواه أبو داود، وقال الألباني: “صحيح”؛ كما في صحيح أبي داود، رقم (2469).

8 راجع: سنن أبي داود(2/117) حديث رقم (2837).

9 تحفة المودود بأحكام المولود(62).

10 سبق تخريجه.

11 رواه الترمذي والنسائي وأبو داود. وقال الألباني: “صحيح” كما في صحيح أبي داود رقم ( 2460 ).

12 رواه الترمذي وابن ماجه وابن أبي شيبة. وهو في صحيح ابن ماجه، برقم ( 2561 ).

13 رواه أبو داود، وقال الألباني: “صحيح “؛ كما في صحيح أبي دادود، رقم( 2466) إلا أنه قال: لكن في رواية النسائي: (كبشين كبشين) وهو الأصح.

14 رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي في سننه.

15  راجع تحفة المولود، صـ(67).

16 تحفة المودود بأحكام المولود، صـ( 67- 68 ).

17 المصدر السابق، صـ(69).

18 تحفة المولود، صـ(70).

19 المصدر السابق، صـ(76).

20 راجع: تحفة المولود، صـ(88).