القول على الله بغير علم

 

 

القول على الله بغير علم

الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارا، وصرفهم في أطوار التخليق كيف شاء عزة واقتدارا، وأرسل الرسل إلى المكلفين إعذارا منه وإنذارا، فأتم بهم على من اتبع سبيلهم نعمته السابغة، وقام بهم على من خالف مناهجهم حجته البالغة، فنصب الدليل، وأنار السبيل، وأزاح العلل، وقطع المعاذير، وأقام الحجة، وأوضح المحجة، وقال:  وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ  سورة الأنعام(153).

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وحجته على عباده، وأمينه على وحيه؛ أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على المعاندين، وحسرة على الكافرين؛ أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

صلَّى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله والصالحون من عباده عليه وآله كما وحد الله وعرف به ودعا إليه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

فإن من المنكرات العظيمة، والأخطار الفادحة الجسيمة؛ التي بليت بها أمتنا اليوم:أنه تصدر للفتوى رؤساء جهالاً، يفتون بغير علم؛ فضلوا وأضلوا، وتجرؤوا على القول الله بغير علم، وقد كثروا في هذا العصر-لا كثرهم الله-، فلقد تزاحموا وازدحموا على القنوات الفضائية، وعلى المنتديات ومواقع الإنترنت على الشبكة العنكبوتية؛ وأصبح الإعلام الفاسد ينمق تلك الرؤوس المتصدرة للفتوى، فربما أفتى الواحد من أولئك المتصدرين في مسائل لو اجتمع لها أهل بدر لتورعوا في أن يفتوا فيها، ولو استفتي فيها علماء كبار أصحاب النبي   لقالوا: “الله أعلم”.

فتاوى -يا عباد الله- سمعناها وقرأنها: تُحل ما علم تحريمه من الدين بالضرورة، كل تلك من دون حجة ولا برهان، بل مجاراة الواقع، ومداهنة الناس، وإرضاءً للحاكم أو الحزب، وما إلى ذلك من حظوظ النفس؛ وصدق المصدوق   حينما قال:  إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتىإذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا  1.

فيا أيها الرؤساء الجُهال المتصدرون للفتيا بغير علم: أما تخافون الله وتراقبونه،أما تخشون أن تقولوا في أشياء هذه حرام، وهذه حلال، فيقول الله لكم كذبتم، قال الله-تبارك وتعالى-:  وَلاَتَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ  “أي لا تحرموا وتحللوا من تلقاء أنفسكم، كذبا وافتراء على الله وتقولا عليه” لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ   لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا بد أن يظهر الله خزيهم وإن تمتعوا في الدنيا فإنه مَتَاعٌ قَلِيلٌ   ومصيرهم إلى النار  وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ  2سورة النحل(116)(117)، قال الربيع بن خثيم -رحمه الله-: “ليتق أحدكم أن يقول أحل كذا وحرم كذا، فيقول الله كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا”3.

أيها المتصدرون للفتوى: أما علمتم أن الفتوى من غير دليل قول على الله بغير علم، والله قد حرم القول على الله بغير علم، وجعل ذلك من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ   سورةالأعراف(33), قال ابن القيم-رحمه الله-: “فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها، وهو الفواحش، ثم ثنّى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلّث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربّع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله، وهو القول عليه بلا علم”4.

أيها المسلم: إن التحليل والتحريم حق لله تعالى، ولذلك فقد عاب الله على الذين يتبعون رؤسائهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله؛ فقال تعالى:  اتَّخَذُواْأَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ  سورة التوبة(31)، يُبين لك ذلك ما جاء في الحديث الصحيح أن النبي   تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي فقال: يا رسول الله لسنا نعبدهم؟! قال: أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟   قال: بلى، قال النبي فتلك عبادتهم  5.

أيها المسلون: اعلموا رحمكم الله أنه لا يجوز لأي إنسان أن يفتي في مسألة دينية إلا إذا توفرت فيه مواصفات وشروط ذكرها العلماء؛ فمن ذلك العلم، والصدق، وأن يكون حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله؛ ذلك أن الفتوى توقيع عن الله وتوقيع عن الله ليس كتوقيع عن غيره من ملوك الدنيا؛ يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله-: “وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟!” إلى أن قال: “فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب –أي الدعوة إلى الله والفتوى والقضاء- أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب؛ فقال تعالى:  وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ  سورة النساء(127)… “وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسئول غدا، وموقوف بين يدي الله”6. قال تعالى:  فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ   سورة الحجر(92)(93)، وقال تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ   سورة الأعراف(6)(7)، وقال تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} سورة الأحزاب(8) “فإذا سئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين؟!”7.

اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين المتقين، واغفر لنا ذنوبنا يا رب العالمين، إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

أما بعد:

أيها الناس: إنه لا ضير على العالم أو المفتي إذا سئل في مسألة لا يعلمها أن يقول: الله أعلم، فقد حذر النبي  زوجاته من القول على الله بغير علم، والحكمِ على الأشياء بغير دليل شرعي؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دعي رسول اللّه   إلى جنازة صبي من الأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ طُوبَى لِهَذَا عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، قَالَ: أو غير ذلك، ياعائشة إنَّ اللّه خلق للجَنَّة أَهلاً، خلقهم لها وهم في أَصلاب آبائهم، وخلق للنَّار أَهلاً، خلقهم لها وهم في أَصلاب آبائهم  8.

بل أعلم الأمة بكتاب الله وسنة رسول الله، أصحاب رسول الله كانوا يتورعون في الفتيا، ويتدافعونها فيما بينهم حتى تعود إلى الأول، يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى: “أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول ما منهم من أحد إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا”9.

وروى أيوب عن ابن أبي مليكة قال: سئل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- عن آية، فقال: “أي أرض تقلني، وأي وسماء تظلني، وأين أذهب، وكيف أصنع؛ إذا أنا قلت في كتاب الله بغير ما أريد الله بها”، وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: “من كان عنده علم فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم، فإن الله قال لنبيه:  قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ  سورة ص(86)، وقال أبو حصين الأسدي: “إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر”10.

أيها المسلم: اسأل عن أمور دينك من تثق في علمه ودينه عمن يستند في فتاواه على الدليل من الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة؛ وهم الذين أمرك الله بسؤالهم؛ فقال: فَاسْأَلُواْأَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ  سورة النحل (43) (44)، فلا تسأل كل من هب ودب من الجُهال الذين نمقهم الإعلام وأبرزهم على أنهم هم المراجع للفتيا.

بل عليك أن تعلم أن الفتوى دين فانظر عمن تأخذ دينك؛ قال محمد بن سرين -رحمه الله-: “إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم”11.

نفعني الله وإياكم بما قلنا وسمعنا، وجعل زادنا وإياكم التقوى، وعاقبتنا الجنة فهي خير المأوى.

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

 


1 رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

2

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان(451) لابن سعدي.

3 جامع العلوم والحكم(278). لابن رجب الحنبلي. الناشر: دار المعرفة-بيروت.

4 إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/38). الناشر: دار الجيل- بيروت (1973).

5 رواه أحمد والترمذي وحسنه.

6 يراجع: إعلام الموقعين عن رب العالمين(1/10- 11).

7  ينظر: إغاثة اللهفان(1/83). الناشر: دار المعرفة – بيروت.

8 رواه مسلم.

9 بدائع الفوائد(3/792). الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز – مكة المكرمة.

10 للمزيد يراجع: إعلام الموقعين عن رب العالمين(2/184- 185).

11 رواه مسلم في صحيحه.