حكم الجهاد في الاسلام

حكم الجهاد في الإسلام

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يبعثون.

أما بعد:

فإن الجهاد في سبيل الله-تعالى- ذروة سنام الإسلام، وأعلى مرتبة فيه؛ فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟). قلت: بلى يا رسول الله، قال: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)1. وذروة الشيء أعلى ما فيه وأرفعه؛ كما يقول ابن رجب: “وهذا يدل على أنه أفضل الأعمال بعد الفرائض”.2

وللجهاد في سبيل الله فضائل كثيرة لا شك فيها، ولكن ما حكم الجهاد في الإسلام؟ هذا ما سنتعرض له في هذه الدقائق المعدودة، فنقول:

الأصل في الجهاد أنه: “فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين”3. وإذا لم يقم به أحد أثم الناس كلهم. قال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}  سورة التوبة(122).

أيها الناس: والجهاد في سبيل الله يكون فرض عين في ثلاث حالات4:

الحالة الأولى: إذا حضر المسلم المكلف القتال، والتقى الزحفان، وتقابل الصفان، فحينئذ يكون الجهاد فرض عين على كل من حضر من المكلفين؛ يقول الله –تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}  سورة الأنفال(45). وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ* وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}  سورة الأنفال (15-16).

وقد عدّ النبي -صلى الله عليه وسلم- (التولي يوم الزحف) من السبع الموبقات -المهلكات-؛ كما في المتفق عليه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

الحالة الثانية: إذا داهم العدو بلدًا من بلدان المسلمين تعين على أهل البلاد قتاله ورده وطرده منها، ويجب على المسلمين أن ينصروا ذلك البلد إذا عجز أهله عن إخراج العدو، ويبدأ الوجوب بالأقرب فالأقرب؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} سورة التوبة(123). وقال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} سورة الأنفال(72) .

الحالة الثالثة: إذا استنفر إمام المسلمين الناس، وطلب منهم ذلك؛ لقوله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}  سورة التوبة(41)

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما– قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونِيَّة، وإذا استُنفِرْتُم فانْفِروا)5. ومعنى: (وإذا استنفرتم فانفروا) “إذا دعاكم السلطان إلى غزو فاذهبوا”6. وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}.  سورة التوبة(38).

والجهاد في سبيل الله -أيها المسلمون- له أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.

وجهاد النفس ينقسم إلى أربع مراتب:

“إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.

الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.

الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.

الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، فمن عَلِم وعمل وعَلَّم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماوات.. وأما جهاد الشيطان فمرتبتان إحداهما: جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.

الثانية: جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات، فالجهاد الأول يكون بعده اليقين والثاني يكون بعده الصبر، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} صلى الله عليه وسلم سورة السجدة(24) صلى الله عليه وسلم. فأخبر أن إمامة الدين إنما تنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات”.

“وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان”.

“وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب: الأولى: باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه”7. ودليل ذلك ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه– عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).

“فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد، ومن مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق… وأكمل الخلق عند الله من كمل مراتب الجهاد كلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه ورسله؛ فإنه كمل مراتب الجهاد، وجاهد في الله حق جهاده، وشرع في الجهاد من حين بعث إلى أن توفاه الله -عز وجل-“8. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغروه وتوبوا إليه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

إخواني المسلمون: إن أصل الجهاد وأصعبه جهاد النفس؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يجاهد أعداء الله إلا بعد جهاد نفسه، فأهل الإيمان والمجاهدة لأنفسهم هم الأولى والأحرى بمجاهدة العدو الخارجي، ووقائع التاريخ خير شاهد، يقول ابن القيم: “ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعًا على جهاد العبد نفسه في ذات الله؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)9 كان جهاد النفس مقدَّمًا على جهاد العدو في الخارج وأصلاً له، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرها الله به وتترك ما نهاها الله عنه ويحاربها في الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصار عليه وعدوه الذي بين جنبيه غالب له وقاهر له؟ ولا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج.

فهذان عدوان – العدو الأول النفس، والعدو الثاني العدو الخارجي– وبينهما عدو ثالث لا يمكن للعبد أن يجاهدهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط الإنسان عن جهادهما ويخوِّفه ويخذله، ولا يزال يخوفه ما في جهادهما من المشاق، وفوات اللذات، والشهوات، فلا يمكنه أن يجاهد هذين العدوين إلا بجهاد هذا العدو الثالث وهو الأصل لجهادهما وهو الشيطان”10.

وفي الأخير -عباد الله- نحب أن نشير إلى أن جهاد الكفار لم يشرع من أجل الانتقام وسفك الدماء؛ -كما يصفه الأعداء بذلك- وإنما شرعه الله لهدف سامي، وغاية نبيلة؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}  سورة الأنفال(39). وعلى هذا فإن الهدف والحكمة من الجهاد تكمن في الأمور التالية:

أولاً: إعلاء كلمة الله تعالى؛ لحديث أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه– قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليُذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)11.

ثانيًا: نصرة للمظلومين والمضطهدين، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} سورة النساء(75).

ثالثًا: ردّ عدوان المعتدين عن ديار المسلمين؛ قال الله -تعالى-: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} سورة البقرة(194)..

ولذلك نجد أن أول ما بعث النبي –صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله باللسان والحجة والبرهان، ولم يشرع الجهاد إلا في مرحلة متأخرة، بل إنه أول ما يعرض على أهل البلاد الكافرة الدخول في الإسلام، فإن استجابوا لذلك فهذا هو الأصل والمقصد، وهو ما يريده الإسلام من الجهاد، فإن لم يسلموا يعرض عليهم دفع الجزية، فإن أبوا كل ذلك فلا سبيل إلا القتال..

والله نسأل أن يوفقنا للجهاد في سبيله، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.

عباد الله: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} سورة النحل(90).



1 الحديث رواه الترمذي وقال: “حديث حسن صحيح”.

2 جامع العلوم والحكم، صـ(274). لابن رجب الحنبلي. دار المعرفة – بيروت. ط:1 (1408هـ).

3 المغني (10/359). لابن قدامة. الناشر: دار الفكر – بيروت. الطبعة الأولى (1405).

4 أشار إلى هذه الثلاث الحالات التي يتعين فيها الجهاد ابن قدامة في “المغني” (10/361).

5 متفق عليه.

6 شرح صحيح مسلم (9/123). للنووي.

7 زاد المعاد في هدي خير العباد (3/9- 10). لابن القيم. الناشر: مؤسسة الرسالة – مكتبة المنار الإسلامية – بيروت – الكويت. الطبعة الرابعة عشر (1407هـ). تحقيق: شعيب الأرناؤوط – عبد القادر الأرناؤوط.

8 زاد المعاد (3/10- 11).

9 رواه أحمد في المسند، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي من حديث فضالة بن عبيد الله، وقال الألباني في إسناد الإمام أحمد: “وهذا إسناد صحيح” انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم (549).

10 انظر: زاد المعاد(3/5).

11 متفق عليه.