الغفلة

الغفلة

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .. أما بعد:

“فإن ذكر الله أصل موالاة الله ​​​​​​​ ورأسها، والغفلة أصل معاداته ورأسها، فإن العبد لا يزال يذكر ربه حتى يحبه فيواليه، ولا يزال يغفل عنه حتى يبغضه ويعاديه قال الله تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (سورة الكهف:28)، وما استجلبت نعم الله تعالى واستدفعت نقمه بمثل ذكر الله، فالذكر جلاب النعم دفاع النقم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَفَعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وفي القراءة الأخرى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا (سورة الحـج:38)، فدفعه ودفاعه عنهم بحسب قوة إيمانهم، وكماله، ومادة الإيمان وقوته بذكر الله، فمن كان أكمل إيماناً وأكثر ذكراً كان دفاع الله عنه ودفعه أعظم، ومن نقَّص نقص، ذِكرٌ بذكر ونسيان بنسيان قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (سورة إبراهيم:7)، والذكر رأس الشكر، والشكر جلاب النعم، موجب للمزيد قال بعض السلف: ما أقبح الغفلة عن ذكر من لا يغفل عن برِّك، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال عذرٍ غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدّاً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على تركه فقال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ (النساء:103) بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال، وقال: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته1، وقال آخرون في معنى قوله: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ يعني: المشركين عند الاحتضار، ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة، قالوا: ماذا قال ربكم؟ فقيل لهم: الحق، وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في معنى قوله:حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ كشف عنها الغطاء يوم القيامة2.

قال ابن عون: الفكرة تذهب الغفلة، وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكرة.3

وقال تعالى: الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ أي غفلة وعمى وجهالة سَاهُونَ لاهُون غافلون عن أمر الآخرة، والسهو: الغفلة عن الشيء، وهو ذهاب القلب عنه.4

والقسوة عباد الله: مبدأ الشرور، وتنشأ من طول الغفلة عن الله تعالى، فمن أحس بقسوة في قلبه فليهرع إلى ذكر الله تعالى، وتلاوة كتابه يرجع إليه حاله كما أشار إليه قوله ​​​​​​​ : اعلموا أَنَّ الله يحي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا فهو تمثيل ذكر استطراداً لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن القساوة قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات التي من جملتها هذه الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ كي تعقلوا ما فيها، وتعملوا بموجبها، فتفوزوا بسعادة الدارين.5

عباد الله: إن مَنْ توسَّدَ الغفلة أيقظْته فجاءةُ العقوبة، ومَنْ استوطن مركب الزَّلَّة عَثَرَ في وَهْدَةِ المحنة، فخرابُ النفوس باستيلاء الشهوة والهفوة، وخرابُ القلوب باستيلاء الغفلة والقسوة، وما ابتلى اللهُ عبداً أشد من الغَفْلة والقَسْوة، ولا نومَ أثقلُ من الغَفلة، ولا رِقَّ أملكُ من الشهوة، ولولا ثِقَلُ الغفلة لما ظَفْرتْ بك الشهوة.

عباد الله: إن الناس اليوم في غفلة عن الآخرة، وعن الهدف الذي خلقوا من أجله، حتى أصبح حال الكثير من هؤلاء كما قال الشاعر:

 نهارك يا مغرور سهو وغفـلةٌ وليلك نوم والردى لك لازمُ
 وشغلك فيما سوف تكره غبـه  كذلك في الدنيا تعيش البهائمُ

والله يقول: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (الحجر:72)، ويقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (طه:124)، ولقد مات عند الكثير من هؤلاء الشعور بالذنب، ومات عندهم الشعور بالتقصير، حتى ظن الكثير منهم أنه على خير عظيم، أو أن ما وقعوا فيه هو من محقرات الذنوب، والرسول  يقول: إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه 6

ثم ماذا في النهاية؟ ماذا بعد كل هذه الغفلة وهذه الشهوات واللذات؟ ماذا بعد هذا اللهو؟ ماذا بعد هذه الحياة المليئة بالمعاصي؟ هل غفل أولئك عن الموت، والحساب، والقبر ،والصراط، والنار، والعذاب، أهوال عظيمة، وأمور تشيب منها مفارق الولدان؟ ذهبت اللذات وبقيت التبعات، وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات، متاع قليل ثم عذاب شديد، وصراخ وعويل في جهنم، فهل من عاقل يعتبر، ويعمل لما خلق له، ويستعد لما أمامه، والله يقول عن هؤلاء: ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (الحجر:3) أي دعهم يعيشوا كالأنعام لا يهتمون إلا بالطعام والشراب، واللباس والشهوات!؟

 أما والله لو علم الأنام لما خلقوا لما غفلوا وناموا
 لقد خلقوا لما لو أبصرته  عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
 ممات ثم قبر ثم حشر  وتوبيخ وأهوال عظــام

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ  .

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله مُيسرِ سبل العبادة لمن سلكها، ومبين طُرق النجاة لمن طلبها، وقابل الحمد من قلوب عن الغفلة والغواية والردى أبعدها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق النفس من العدم فأنطقها، وبث في الكون آثار وحدانيته فجلاها وأظهرها، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله خير البرية أجمعها وأزكاها وأطهرها صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:

فاتقوا الله يا عباد الله، ولا تغفلوا عن يوم معادكم يقول الله  : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (سورة الحشر:18).

ألا وإن للغفلة عباد الله أسباباً، وإن من أعظم أسبابها الجهل بالله ​​​​​​​ وأسمائه وصفاته.

ومن أعظم أسباب الغفلة أيضاً الاغترار بالدنيا، والانغماس في شهواتها قال الله ​​​​​​​ : ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (الحجر:3)، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (فاطر:5).

إن سكران الدنيا لا يفيق منها إلا في عسكر الموتى، نادماً مع الغافلين.

ومن أسباب الغفلة أيضًا صحبة السوء قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً۝ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً۝ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً(الفرقان:27-29)، والنبي  يقول: المرء على دين خليله 7. إن الغفلة حجاب عظيم على القلب يجعل بين الغافل وبين ربه وحشة عظيمة لا تزول إلاَّ بذكر الله تعالى، وإذا كان أهل الجنة يتأسفون على كل ساعة مرت بهم في الدنيا لم يذكروا الله فيها؛ فما بالنا بالغافل اللاهي؟! حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (المؤمنون:99-100)، إنهم عند نزول الموت بساحتهم يتمنون أن يؤخروا لحظات قلائل، والله ما تمنوا عندها البقاء حبًّا في الدنيا، ولا رغبة في التمتع بها، ولكن ليتوبوا ويستدركوا ما فات، لكن هيهات وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ (سـبأ:54).

وإن الداء الذي أضعف الأمة وأصابها في مقتل – رجالها ونساءها إلا من رحم الله – هو داء الغفلة.

وليست الغفلة قصراً على الجاهل وغير المتعلم؛ بل هناك ممن يحملون أكبر الشهادات في علوم الدنيا وهم من الغافلين أخبر عن ذلك الله بقوله: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ يقول ابن القيم – رحمه الله -: “إن حجاب الهَيْبَةِ لله ​​​​​​​ رقيقٌ في قلبِ الغافلِ” وقال أيضاً: “على قدر غفلة العبد عن الذكر يكون بعده عن الله”، والغافل أيها الأحبة تحبسه غفلته عن الترقي في مراتب الكمال يقول ابن القيم في ذلك: “لا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت”، وقال أيضاً: “إن مجالسَ الذكرِ مجالسُ الملائكةِ، ومجالسَ اللغوِ والغفلةِ مجالسُ الشياطينِ، فليتخيرِ العبدُ أعجبهما إليه، وأولاهما به؛ فهو مع أهله في الدنيا والآخرة”8.

عباد الله: فطوبى لمن تنبه من رقاده، وبكى على ماضي فساده، وخرج من دائرة المعاصي إلى دائرة سداده، عساه يمحو بصحيح اعترافه قبيح اقترافه، قبل أن يقول فلا ينفع، ويعتذر فلا يسمع.

فاتقوا الله رحمكم الله، واستقيموا إلى ربكم واستغفروه، ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (الأحزاب:56) اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والخلق الأكمل، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.


1 – تفسير ابن كثير (ج 6 / ص 433)

2 – تفسير ابن كثير (ج 6 / ص 514)

3 – تفسير البغوي (ج 2 / ص 152)

4 – تفسير البغوي (ج 7 / ص 372)

5 – تفسير الألوسي (ج 20 / ص 329)

6 – مسند أحمد (ج 8 / ص 162 – 3627). قال الألباني (صحيح لغيره).  صحيح الترغيب والترهيب -(ج2 / ص 323).

7 –  سنن أبي داود (ج 12 / ص 459 – 4193)  وسنن الترمذي (ج 8 / ص 383 – 2300) ومسند أحمد (ج 16 / ص 226 – 7685) وصحيح وضعيف سنن أبي داود (ج 10 / ص 333) تحقيق الألباني: حسن الترمذي ( 2497 )، الصحيحة ( 927 ) ، صحيح الجامع ( 3545 )

8 – الوابل الصيب جزء 1 صفحة 65