أفراح وأتراح

أفراح وأتراح

أفراح وأتراح

 

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله كلما تلي الكتاب، وأمطر السحاب، وطلع كوكب وأفل وغاب، الحمد لله عدد ما وسعت رحمة ربي العزيز الوهاب، الحمد لله عدد خلق الله ومداد كلماته وزنة عرشه، الحمد لله عدد ما أحرم الحجاج من الميقات وعدد ما رفعوا بالتلبية لله الأصوات، الحمد لله عدد ما دخل الحجاج مكة ونزلوا بتلك الرحبات، وعدد ما طافوا بالبيت العتيق وعظموا الحرمات، وعدد ما خرجوا إلى منى ووقفوا بعرفات وعدد ما باتوا بمزدلفة وعادوا إلى منى للمبيت ورمي الجمرات، وعدد ما أراقوا من الدماء وحلقوا من الرؤوس تعظيما لفاطر الأرض والسماوات.

الحمد لله الذي شرع الشرائع بحكمته ورحمته، وختمها بشريعة الإسلام وملته، وحفظ هذا الدين من التغيير والتبديل في كتابه وسنته، وهدى المؤمنين لطاعته وكراهة معصيته، ففاز الطائعون برضوان رب العالمين وجنته، وخسر العصاة الفاسقون فباءوا بغضب الرب ونقمته، أحمده ربنا وإلهنا إله الحق على عظيم كرمه ومنته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبدُه ورسوله، المبعوث بالحنفية السمحة التي بددت الظلام، وأرست العدل والسلام، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحابته.

أيها المسلمون -عباد الله-: العيد في الإسلام يوم سرور وفرح وزينة، يحب الله أن تظهر فيه أثر نعمه على عباده، بلبس الجديد من الثياب، وتناول الطيب من الطعام بدون إسراف ولا مخيلة؛ فالله يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ* قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (32) سورة الأعراف.

فالله -سبحانه- قد أحل الطيبات من الطعام واللباس في ذلك اليوم، ولكنه حدد ذلك بعدم الإسراف؛ حتى لا ينسى المسلمون المعنى الطيب من العيد، وهو شكر الله على إنعامه وتوفيقه، ويندفعوا في جلب المشقة على أنفسهم وعلى غيرهم من ذوي الدخول المحدودة بالإسراف في ألوان الطعام واللباس إسرافا يخرجهم عن حد المألوف المباح إلى دائرة المكروه والمحرم، وشكر الله -عز وجل- على نعمه يقتضي البعد عما حرم.1

والعيد في المجتمع الإسلامي مناسبة متميزة؛ فهو فرصة للفرح، والسرور، والتواصل الاجتماعي، وتناول أنواع من المآكل، والمشارب، وممارسة المناشط الاحتفالية والترفيهية.

العيد صلة للأرحام وبر بالوالدين وعطف على الفقير والمسكين ورحمة بالجار.

العيد عند المسلمين تتجلى فيه الأفراح الإيمانية المنضبطة بضوابط الشرع المحفوفة بسياج الأدب، ففي العيد المزح الوقور والدعابة اللطيفة والنكتة البريئة والبسمة الحانية والنزهة المباحة والقصص البديع.2

أيها المؤمنون: في هذه الأيام تعيش الأمة الإسلامية كل الفرح والسرور وذلك استعداداً للقاء هذا العيد العظيم المبارك، الذي شرعه الله تعالى ليفرح المسلمون فيه، ولتعلم الأمم الأخرى أن في ديننا فسحة ورخصة.

كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (العبوا يا بني أرفدة؛ لَتَعْلَمُ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ).3

أيها الناس: وفي المقابل تعيش الأمة الإسلامية غربة ليس بعدها غربة، تعيش في حالة من الاستضعاف، ففي الوقت الذي يمرح فيه أطفال العالم الإسلامي ويلعبون فرحاً بالعيد فإن الطفل الذي يقبع والده خلف الأسوار وغيره من الأطفال الذين استشهد آباؤهم أو غيبوا في السجون الصهيونية أو السجون الأمريكية أو السجون العربية لا يعرفون للعيد فرحة ولا بهجة.

هل عدتَ بالأمل المحبوب يا عيدُ  ما زلتُ أرجع للذكرى فتؤلمني ما زلتُ أذكر أيّاماً مضت وخلت قدْ كان يجمعنا دينٌ ويسعدنا لم يبق فيه حزين في ملمّته ما العيد إلاّ إذا قامت دعائمنا ما العيد إلاّ لحرّ لمْ يهنْ أبداً أيام هارون تدعوني فأندبها حدائق الشام والفسطاط أنشدها

 

 

عودٌ سعيد فهل في العيد تجديدُ وفي التذكُّر تعذيبٌ وتسهيدُ والعزّ فيها على الأرجاء ممدودُ عيدٌ ويوم من الأيّام مشهودُ ولا تشتت في البلدان منكودُُ وفوقها علم للدين معقودُ ولا بدا وهو في الأغلال مصفودُ وأشتكي كيف أنَّ الوصل محدودُ وأرض أندلس ذكرى وتمجيدُ

 

ففي الوقت الذي يفرح فيه الناس بالعيد هناك من يقبع في السجون ووراء القضبان.

ليس صحيحا أن الكل في العيد يشعر بالفرح، إن هناك الكثير من البؤساء تتضاعف في العيد أحزانهم، فيخافون منه، ويتمنون لو أنه مر وما علموا به، بدلا من أن يدمي جروحهم.

ليس صحيحا أن كل من يلبس في العيد جديدا، ويضحك، يشعر بالفرح، هناك الكثير من ملابس العيد تبكي يوم العيد.

وهذه رسالة من بنت لأمها القابعة في سجون الاحتلال تقول:

أمي الحبيبة البعيدة، أكتب لك رسالتي هذه وقد هدني الشوق، وزلزلني الخوف، نعم أنا خائفة! فالعيد يا أمي على الأبواب، عندي ابتسامة واحده ولو زائفة، أواري بها حزني في العيد!!

أشكو لك العيد يا أمي وقسوته  العيد يسخر يا أماه من تعبي في ليلة العيد أبكيت البكاء معي وها أنا في نهار العيد جالسة لو كان للعيد باب كنت أغلقه مالي وللعيد إن العيد ليس هنا اليتم في العيد وجه لا عيون له لم يبخلوا بكريم المال واجتهدوا إن جاء عيد أيا أماه فابتهجي وادعي لي الله أن ألقاك عاجلة

 

 

في العيد كل عزيز الدمع يمتهن العيد ينبش جرحا كاد يلتئم وسادتي. دفتري. والحبر والقلم ألف نفسي ونفسي لفها ألم في العيد نار الأسى تعلو وتضطرم العيد عيناك يا أماه لو علموا لا شيء في الدار يغرينا فنبتسم على اللباس وكان الناتج الوهم ولتفرحي إن لي في سعدك وطن وأن أراك وأن الشمل يلتئم

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله، أحمده سبحانه وأشكره على الدّوام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدّوس السلام، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ما صام صائمٌ وحجّ حاجّ ولله قام. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون:

تتجدد الأعياد وتمضي، وما زال المسلمون في هذا العصر يعيشون أشجاناً بعد أشجان! وهل ترانا نحيا بهجة العيد وأفراحه الحقيقية في ظلّ حراب الأعداء وإذلالهم للأمّة الإسلامية في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وغيرها؟ كيف نحياه والأمم الحاقدة الظالمة تتكالب على أمّتنا، كما تتكالب الأكلة على قصعتها؟

ففي العراق من المآسي الكثير فكل يوم والدماء تنزف، والبيوت تهدم، والمساجد تدنس وتحرق، ويقتل خطباؤها وأئمة مساجدها، والنساء تنتهك أعراضهن ويقدن إلى أحضان النصارى المحتلين، والمصاحف تمزق وتحرق، وكل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وعلى أيدي العملاء الروافض.

فلا غرو أن نذرف الدموع على فضائح التعذيب في سجون أبي غريب، وغيره من السجون، ولا نسمع أنين الأهل من سجناء الرأي والضمير والدين في سجوننا العربية, مع أن جدرانهم ملاصقة لآذاننا الصماء اختياراً!! وبرغم أن الولايات المتحدة دولة احتلال تخوض حرباً ضروساً مع مقاوميها, ومفهوم -لا مقبول قطعاً- أن يكون لها أسرى, ومفهوم كذلك أن تتماهى سلوكياتها مع سلوكيات الجدود سواء في محاكم التفتيش أم في غيرها, وخلاف ذلك ليس إلا استثناء يوقفنا أمامه مندهشين, ولسنا نخوض حروباً إلا مع شعوبنا التي لا تملك إلا أن تقول" حسبنا الله ونعم الوكيل".

وكيف يحلو العيد ونداءات أصحاب النفاق تلوح في الجماهير أن الحجاب الإسلامي ما هو إلا نشاز وغير مألوف، وأن المتحجبة نشاز، وما الحجاب إلا رمز للطائفية فلا يرضى بالطائفية في بلاده.

وكيف يحلو العيد وإخواننا في الشيشان وأفغانستان والصومال وفي كل بقعة إسلامية يشكون القتل والتشريد والحصار.

بل كيف يحلو العيد والمآذن في بلاد المسلمين لا سيما البلاد العربية مقيدة عن قول الحق والدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر.

بل كيف يحلو العيد وعرض نبينا ينتهك من قبل أحفاد القردة والخنازير وأحلافهم من النصارى المعتدين.

بين هذا وهذا نعيش أعيادنا الإسلامية.

فيا أيها الناس: يجب علينا أن نتذكر أتراح وأحزان المسلمين ونحن نفرح في أيام عيدنا المبارك، ومن المصيبة أن يعيش العبد في غفلة عما يدور حوله وعما يجري للمسلمين في كل مكان، ولنكن كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن حال المؤمن الحق أنه مع المؤمنين كالبنيان يشد بعضه بعضه، وحال المؤمنين الصادقين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى..

جعل الله عيدنا من أجمل الأعياد، وختم لنا عمرنا بخاتمة الصالحين والعُبَّاد، ونصر الله من نصر الدين، وخذل الله من خذل الإسلام والمسلمين، وجعلنا ممن يتبع سيد المرسلين.

اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، وبك خاصمنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير.

اللهم ارفع الهم والغم والكرب والبلاء عن المسلمين في كل مكان، وأعد الأعياد عليهم وهم في فرحة وسرور، ونعمة وحبور، اللهم اجعل لهم من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل عسر يسرا ومن كل بلاء عافية..

اللهم صل على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا,,


 


1 من مقال بعنوان: معنى العيد في الإسلام. المصدر: http://www.islamonline.net

2 كتاب ثلاثون درسا للصائمين لعائض القرني ص(64).

3 رواه أحمد (23710) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2924).