الحرب على الحجاب

الحرب على الحجاب

الحرب على الحجاب

الحمد لله على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أرضه وسمائه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم لقائه، وسلم تسليما.. أما بعد:

عباد الله:

إن الإسلام جاء مكملاً لمكارم الأخلاق، ومنادياً بالبُعد عما يثير الغرائز، ويحرك الشهوات، وذلك من أجل إصلاح البشرية، والسمو بها عن مرحلة البهيمية والفوضى إلى درجة عالية من العفة والطهارة، قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق)1.

ولأن الغرائز والشهوات الطبيعية جزء أساسي من تكوين الإنسان، فقد عمل الإسلام على ضبطها وتوجيهها التوجيه السليم، فشرع الزواج الوسيلة الوحيدة لإشباع الغرائز والشهوات، وإنشاء الأسرة التي هي النواة للمجتمع الإسلامي.

ولأن النفس أمـارة بالسوء، فقد حرَّم الإسلام كل ما يمكن أن يؤدي إلى إثارة غرائز الإنسان، أو تهييج شهواته، ولهذا جاء الأمر الرباني للمسلمين بأن يغضوا من أبصارهم، وأمر المسلمات بارتداء الحجاب، يحفظن به أنفسهن، وحرَّم عليهن التبرج والسفور، ومخالطة الرجال غير المحارم، قال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(31) سورة النــور.

ولأن أمر الحجاب في الإسلام عظيم، فقد جاء الأمر الرباني للنبي الكريم – عليه الصلاة والسلام – بأن يأمر أزواجه وبناته قبل نساء المؤمنين بارتداء الحجاب، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} فإذا كان الأمر بالحجاب قد بدأ بأزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – وهن العفيفات الشريفات الطاهرات فكيف ببقية نساء المؤمنين وخاصة في هذا الزمان الذي انتشرت فيه الفتن وصار فيه الدين غريباً؟!

من أجل ذلك توعَّد الله – عز وجل – المتبرجات المظهرات لزينتهن لغير أزواجهن بالعذاب الأليم يوم القيامة2.

قال – صلى الله عليه وسلم – في وصف أهل النار: (صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)3.

والتبرج هو أن تظهر المرأة زينتها لغير محارمها، وهو من الأمور المحرمة في الإسلام، لأن المقصود منه هو إثارة شهوات الرجال من غير الأزواج فتحدث الفتنة في المجتمع.

أما الحجاب فهو نقيض التبرج ويُقصد به الستر والإخفاء، ومنه حاجب العين الذي يمنع عنها الغبار والأتربة وأشعة الشمس وحاجب الملوك أو الرؤساء والذي يمنع عنهم الدخلاء والمتطفلين والمتسكعين.

وتقتضي فطرة الإنسان العفـة والطهارة، ولذلك نجد أن إبليس اللعين عندما أغوى آدم عليه السلام وزوجه بالأكل من الشجرة المحرمة وتم له ما أراد، سقطت عنهما ثيابهما وبدت لهما عورتاهما فأخذا يأخذان من أوراق الشجر ليخفياهما، وذلك التصرف الطبيعي والتلقائي الذي قاما به من دون أن يأمرهما به أحد يدل على أن الأصل في الفطرة البشرية العفة والطهارة وإخفاء العورات.

قال سبحانه وتعالى:{فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ}.

كانت النساء قبل الإسلام وفي عهد الجاهلية يتبرجن ويلبسن الملابس الخفيفة ويمشين في الأسواق ويعرضن أنفسهن على الرجال، لذلك جاء الأمر من عند الله لنساء المسلمين بارتداء الحجاب، قال تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}.

أما اليوم فقد تفننت النساء في ابتداع أساليب جديدة من التبرج والسفور، وصارت المصانع الغربية تمد بلاد المسلمين بالملابس الضيقة الشفافة التي تكشف أكثر مما تستر، وتزيد من مفاتن النساء.

وغمرت هذه المصانع أسواق المسلمين بأنواع المساحيق والطلاء والعطور الكثيرة المثيرة للشهوات، وأنواع شتى من الأحذية التي تجعل النساء يتمايلن في مشيهن، ويبالغن في التغنـج والدلال. كما قيل:

وجوه الغانيات بلا نقاب          تصيد الصيد بشرك العيون

إذا برزت فتاة الخدر حسرى        تقود ذوي العقول إلى الجنون

وكما قيل:

ذبلت أزاهير العفاف وسعرت            في الحرب نار للهوى شعواءُ

عجباً لمن صبغوا الوجوه بأحمر            إذ ليس في تلك الوجوه حياءُ

نسأل الله أن يبصر المسلمين بهذه الأخطار العظيمة وأن يصون المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

 الحمد لله سلك بأهل الاستقامة سبيل السلامة، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، بوأ المتقين في دار المقامة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها ليوم القيامة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، فاز من جعله إمامه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والكرامة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيها المسلمون:

إن الحملة الشرسة على الحجاب كأحد المظاهر الإسلامية تأتي في إطار حملة أوسع للحرب على الإسلام؛ إذ أكد أن هذا الموقف من الحجاب ليس جديداً، بل هو جزء من الحرب على الإسلام التي بدأت، إنها حرب شريرة فاجرة على الإسلام وقيمه وتعاليمه، خدمةً للمشاريع التغريبية الصهيونية التي تعمل ليل نهار على تذويب هوية المسلمين، وإبعادهم عن دينهم وعقيدتهم. {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(30) سورة الأنفال

إن الحرب ضد الحجاب عباد الله قديمة بدأت في مصر منذ أكثر من مائة عام؛ حيث ظهر أول صوت من أعداء الإسلام، وأنصار التغريب ضد حجاب المرأة المسلمة، ومنذ ذلك الحين لم تهدأ المعركة التي اشتعلت نيرانها في أماكن كثيرة من العالم الإسلامي، بل وغير الإسلامي. وكانت أول شرارة في تلك المعركة من الجانب التغريبي في مصر من صديق اللورد كرومر (مرقص فهمي) في كتابه المرأة في الشرق عام 1894م، ولكنها لم تُحدث أثراً كالطلقة التي أطلقها قاسم أمين في كتابه المسمى (تحرير المرأة) عام 1899م؛ وذلك بعد عودته من إتمام دراسته في فرنسا.

وعندما بدأت مظاهر الصحوة الإسلامية تظهر في العديد من بلدان العالم، وانتشر الحجاب في بلاد المسلمين، ووسط بناتهم في الدول الغربية هاج الغرب الكافر وماج، وتجاوب معه بعض أنصار الرذيلة ودعاة الفجور في البلاد الإسلامية، وبدأوا في محاربة الحجاب الإسلامي حرباً شعواء لا هوادة فيها، ووصفوا الحجاب بأنه يغطي على عقل المرأة وأنه جزء من اضطهاد الإسلام لها ونعتوا المحجبات بنعوت لا تليق ورموهن بالتخلف والرجعية والاستسلام لسطوة الرجل وغيرها مما ينعق به الناعقون.

وعندما تأكد لهم أن الحجاب الإسلامي أصبح مطلباً شعبياً، وأنه آخذ في الانتشار وسط نساء المسلمين أعلنوا الحرب عليه، وخلال الفترة الماضية قامت العديد من الدول الغربية بشن حملة ضارية على الحجاب في المدارس ودواوين الحكومة.

ولكن هل وقفت الحرب ضد الحجاب بعد مرور أكثر من مائة عام؟ المؤكد أنها لم تقف وإن كانت انتشرت في أماكن كثيرة في العالم الإسلامي بصور شتى؛ ففي تركيا أرض الخلافة الإسلامية العثمانية سابقاً كانت هناك معركة من الدولة ضد الحجاب في الجامعات، بل وضد نائبة في البرلمان بسبب ارتدائها الحجاب، وفي تونس حرب متنوعة ضد الحجاب والمرأة المسلمة بأشكال متنوعة وسافرة4.

وبقي أن نعرف – أيها المسلمون – أن الحرب ضد الحجاب مظهر من مظاهر الصراع ضد الإسلام بأشكال وأنماط مختلفة ومتنوعة.

ولقد اتخذت هذه الحملة الخبيثة أشكالاً عديدة، فمرة تسمع من يقول إن الحجاب يعزل المرأة عن شرائح المجتمع، ويحرمها من دورها، وظهر من يدعو إلى تحرير المرأة وغيرها من الدعاوى الساقطة، ونسى هؤلاء الذين لا هم لهم إلا تحرير المرأة من قيمها واحترامها لنفسها أن الإسلام ما شرع الحجاب إلا صوناً للمرأة المسلمة وتكريماً لها وإعلاءً لقدرها وتقديراً لدورها في المجتمع، إذ أن المرأة المحجبة تكون بمنأى عن مشاكسات الذئاب البشرية ومصانة ممن لا يريدون لها إلا أن تكون متاعاً ومكاناً لتفريغ الشهوات.

وعندما يشعر هؤلاء أن ما ساقوه من حجج يتساقط من تلقاء نفسه نسبة لضعفه وعدم موضوعيته نجدهم يلجئون إلى الاستشهاد برأي بعض من يتدثرون برداء الدين من المستغربين والماركسيين وذوي المصالح الخاصة على أنهم من العلماء المسلمين، فيلوون لهم أعناق الحقائق ويستشهدون بأدلة ليست في مكانها، ويفسرون الأحكام الإسلامية حسب هواهم متوهمين أن هذه الافتراءات سوف تنطلي على الأمة الإسلامية، وما دروا أن علماء الأمة الأمناء على دينها واقفون لهم بالمرصاد مفندين حججهم ودعاواهم.

ولكن يبقى أصحاب القلوب المطمئنة العامرة بالإيمان على يقين بأن العاصفة سوف تزول وأن سحب التشكيك سوف تنقشع عما قريب وأن الله متم نوره ولو كره الكافرون.

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

ثم صلوا وسلموا على رسول الله كما أمركم الله في محكم كتابه.

اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمّر أعداءك أعداء الدين

نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تغفر لنا هذه الساعة، وأن تجيرنا من النار برحمتك، ونسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، وشوقا إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، ونعوذ بك أن نَظْلِم أو نُظْلَم، أو نعتدي أو يُعتدى علينا، أو نكتسب خطيئة أو ذنبا لا تغفره، اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، ذا الجلال والإكرام، فإننا نعهد إليك في هذه الحياة الدنيا، ونشهدك وكفى بالله شهيداً، ألا إله إلا أنت؛ وحدك لا شريك لك، لك الملك، ولك الحمد، وأنت على كل شيء قدير، و أن محمدا عبدك ورسولك، ونشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والجنة حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنك تبعث من في القبور، وأنك إن تكلنا إلى أنفسنا تكلنا إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة، وإنا لا نثق إلا برحمتك، فاغفر لنا ذنوبنا كلها، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.


 


1 – مسند أحمد – (ج 18 / ص 137- 8595) تحقيق الألباني: ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2349 في صحيح الجامع.

3 – صحيح مسلم – (ج 11 / ص 59 – 3971)