علو الله تعالى ومباينته لخلقه

علو الله تعالى ومباينته لخلقه

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فإن الله الذي خلقنا أوجب علينا أن نعرف أين هو؟ حتى نتجه إليه بقلوبنا ودعائنا وصلاتنا، ومن لا يعرف أين ربه يبقى ضائعاً لا يعرف وجهة معبوده، ولا يقوم بحق عبادته.

إن صفة العلو لله على خلقه هي كبقية الصفات الواردة في القرآن والأحاديث الصحيحة كالسمع والبصر، والكلام والنزول وغير ذلك من صفات الله، فإن عقيدة السلف الصالح، والفرقة الناجية أهل السنة والجماعة الإيمان بما أخبر الله به في كتابه أو رسوله في أحاديثه من غير تأويل، ولا تعطيل، ولا تشبيه، لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ(سورة الشورى:11).

ولما كانت هذه الصفات – ومنها صفة علو الله على خلقه – تابعة لذاته؛ فإن الإيمان بها واجب كالإيمان بالذات العلية، ولذلك قال الإمام مالك لما سئل عن معنى قوله تعالى:  الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (سورة طـه:5) فقال: الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب.

فانظر – يا أخي المسلم – إلى قول مالك – رحمه الله – حيث جعل الإيمان بالاستواء واجباً معرفته على كل مسلم، ولكن كيفيته مجهولة لا يعلمها إلا الله.

إن كل منكر لصفة من صفات الله الثابتة: في القرآن والحديث، ومنها العلو المطلق، وأنه على السماء؛ يكون منكرا للآيات والأحاديث الدالة على إثباتها، وأن هذه صفات كمال، ورفعة، وعلو، لا يجوز نفيها عن الله، وما كان من محاولة من بعض المتأخرين في تأويل الآيات والصفات إلا لأنهم متأثرون بالفلسفة التي أفسدت عقائد كثير من المسلمين، مما جعلهم يعطلون هذه الصفات الكمالية لله، ويخالفون طريقة السلف والتي هي أسلم، وأعلم، وأحكم، وما أحسن من قال:

 وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف

والخلاصة: أن الإيمان بجميع الصفات الواردة في القرآن والأحاديث الصحيحة واجب، ولا يجوز أن نفرق بين الصفات فنؤمن ببعضها على ظاهرها، ونتأول بعضها الآخر، فالذي يؤمن بأن الله سميع بصير لا مثيل له في سمعه وبصره؛ عليه أن يؤمن بأن الله في السماء – أي على السماء عُلوًا يليق بجلاله لا مثيل له في علوه -؛ لأنها كلها صفات كمال لله، أثبتها الله لنفسه في كتابه، وكلام رسوله ﷺ، تؤيدها الفطرة السليمة، ويصدقها العقل السليم، قال نعيم بن حماد شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه”1.

الأدلة على علو الله:

وقد دل على علو الذات الإلهية: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل وهو موافق للفطرة السوية.

أما الكتاب: فقد تنوعت الأدلة الواردة في القرآن الكريم في الدلالة على إثبات علوه ​​​​​​​ على خلقه علو ذات منها:

النوع الأول: أن الله ​​​​​​​ سمى نفسه بِـ”العلي” وَ”الأعلى”، وأسماء الله ​​​​​​​ تتضمن صفاته ​​​​​​​، والقاعدة السلفية: أسماء الله أعلام وأوصاف، فاسم “العليم” دال على صفة العلم دلالة تضمن، وكذلك اسم “العلي” و”الأعلى” دالان على صفة العلو.

النوع الثاني: إثبات استواء الله ​​​​​​​ على عرشه، وقد جاء هذا في سبعة مواضع في كتاب الله .

منها: قوله تعالى في سورة “طه”: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (سورة طـه:5)، والاستواء في لغة العرب إذا عدي بحرف الجر “على” كان بمعنى علا وارتفع، وانظر كلام السلف في تفسير الآية.

النوع الثالث: إثبات فوقيته تعالى، قال تعالى عن الملائكة: يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ (سورة النحل:50). النوع الرابع: التصريح بصعود الكلم الطيب إليه قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (سورة فاطر:10).

النوع الخامس: التصريح برفع بعض الأشياء إليه قال تعالى عن عيسى : بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ (سورة النساء:158) ، وقال تعالى: إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ (سورة آل عمران:55)، إلى آخر الأنواع الدالة على علو الله على خلقه وهي كثيرة جداً، ولولا خشية الإطالة لذكرتها كلها، ولقد ذكر بعض العلماء أن في القرآن الكريم أكثر من ألف دليل على علو الله، وأوصلها بعضهم إلى ألفين.

وأما الأدلة من السنة المطهرة فهي كثيرة جداً لا تكاد تحصى:

منها: الحديث المتواتر في قصة الإسراء والمعراج، وتجاوز النبي  السموات سماء سماء حتى انتهى إلى ربه تعالى، فقربه وأدناه، وفرض عليه الصلوات خمسين صلاة، فلم يزل بين موسى وبين ربه تبارك وتعالى، وينزل من عند ربه – تعالى – إلى عند موسى  فيسأله: كم فرض عليك؟ فيخبره، فيقول: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فيصعد إلى ربه فيسأله التخفيف.

ومنها: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله  : لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي.2، ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري  قال: قام فينا رسول الله  بخمس كلمات فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه3 إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على علو الله على خلقه. ومن المأثور عن الصحابة  في إثبات العلو لله تعالى مارواه ابن أبي حاتم والبيهقي في كتاب “الأسماء والصفات” عن جرير بن حازم قال: سمعت أبا يزيد يحدث قال: لَقِيَت امرأةٌ عمرَ  يقال لها: خولة بنت ثعلبة، وهو يسير مع الناس، فاستوقفته فوقف لها، ودنا منها، وأصغى إليها رأسه، حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين: حبست رجالات قريش على هذه العجوز، قال: “ويحك وتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها، إلا أن تحضر صلاة فأصليها، ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها”.4

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن أنس  قال: كانت زينب تفخر على أزواج النبي  تقول: “زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات”.5

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لعائشة رضي الله عنها: “كنت أحب نساء رسول الله  إلى رسول الله   ولم يكن رسول الله  يحب إلا طيباً، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات جاء بها الروح الأمين”6.

أما الإجماع: فقد أجمع المسلمون من الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا على أن الله فوق خلقه، عال عليهم بذاته وقدره وقهره، بائن منهم، وأنه تعالى مستو على عرشه، وأنه مطلع على خلقه، وهو معهم بعلمه لا تخفى عليه خافية يقول الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي: مقالة السلف وأئمة السنة بل والصحابة والله ورسوله والمؤمنين: أن الله فوق سماواته… ومقاله الجهمية أنه في جميع الأمكنة، ومقال متأخري المتكلمين – من أشاعرة وماتريدية وفلاسفة – أن الله ليس في السماء، ولا على العرش، ولا على السماوات، ولا في الأرض، ولا داخل العالم، ولا خارج العالم، ولا هو بائن عن خلقه ..، قال لهم أهل السنة والأثر:…هذه السلوب نعوت المعدوم – تعالى الله  عن العدم -، بل هو متميز عن خلقه موصوف بما وصف به نفسه في أنه فوق العرش بلا كيف.7

وقد ذكر الإمام أبو عمرو الطلمنكي في كتابه في الأصول: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته، وقال – أيضا -: أجمع أهل السنة على أنه تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز، ثم ساق بسنده عن مالك قوله: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، ثم قال: وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ (سورة الحديد:4) ونحو ذلك من القرآن؛ بأن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء.8

وروى ابن أبي حاتم في “كتاب السنة” عن سعيد بن عامر الضبعي- رحمه الله – أنه ذكر عنده الجهمية فقال: هم شر قولاً من اليهود والنصارى، وقد أجمع أهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء!9

وقال الإمام الحافظ أبو القاسم اللالكائي – واسمه هبة الله بن الحسن الطبري الشافعي – في كتابه: «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» سياق ما روي في قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (سورة طـه:5)، وأن الله على عرشه قال الله ​​​​​​​: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (سورة فاطر:10)، وقال: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء (سورة الملك:16)، وقال: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ (سورة الأنعام:18)، فدلت هذه الآيات أنه في السماء، وعلمه بكل مكان من أرضه وسمائه، روي ذلك عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وأم سلمة ، ومن التابعين ربيعة، وسليمان التيمي، ومقاتل بن حيان، وبه قال مالك، والثوري، وأحمد.10

هذا مختصر ما نعتقده نحن أهل السنة والجماعة في صفة العلو لله تعالى، أسأل الله تعالى أن يوفقنا لمنهج أهل السنة والجماعة، وأن يهدي كل من زَلَّت به قدمه عن الحق والصواب، ومن جانب سبيل أهل الديانة والأصحاب، إنه خير مسؤل، وأعظم مأمول، والحمد لله رب العالمين.11


1 شرح العقيدة الطحاوية (1/ 117).

2 رواه البخاري (6969) ومسلم (2751) واللفظ للبخاري.

3 رواه مسلم (179).

4 رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات، وضعفه الألباني: في تحقيق شرح الطحاوية.

5 رواه الترمذي (3213) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

6 رواه أحمد (2496)قال شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبدالله بن خثيم فمن رجال مسلم.

7 كتاب العلو: (107-195).

8 اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية  (1/ 76).

9 المرجع السابق (1/134).

10 شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي(3/388).

11 للاستفادة الرجوع إلى كتاب: “إثبات علو الله ومباينته لخلقه: للشيخ: حمود بن عبدالله  التويجري”.