الرحمن الرحيم- معانيها- آثارها

الرحمن الرحيم- معانيها- آثارها

الرحمن الرحيم- معانيها- آثارها

الحمد لله المنفرد باسمه الأسمى، المختص بالعز الأحمى، الذي ليس دونه منتهى، ولا وراءه مرمى.الظاهر لا تخيلاً ولا وهماً، الباطن تقدساً لا عدماً.وسع كل شيء رحمة وعلماً، وأسبغ على أوليائه نعماً عماً. وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عرباً وعجماً، وأزكاهم محتداً ومنمى، وأرجحهم عقلاً وحلماً، وأوفرهم علماً، وأقواهم يقيناً وعزماً، وأشدهم بهم رأفة ورحماً، زكاه روحاً وجسماً، وحاشاه عيباً ووصماً، وآتاه حكمة وحكماً وفتح به أعيناً عمياً، وقلوباً غلفاً وآذاناً صماً، فآمن به، وعزره، ونصره من جعل الله له في مغنم السعادة قسماً، وكذب به وصدف عن آياته من كتب الله عليه الشقاء حتماً، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه وسلم صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وسلم تسليما كثيراً.1

الرحمن: هو العلم الثاني للذات العلية، يفيض بالرحمة التي لا منتهى لها، والتي وسعت كل شيء، فهو صاحب الرحمة العامة للخلق جميعاً، لا غنى لأي كائن عنها.

وهو اسم يدل على أن الله عز وجل مستغن بذاته عن سائر خلقه، فهم مفتقرون إليه بالضرورة يرجون رحمته ويخافون عذابه.

والمؤمن عندما يلهج في دعائه بهذا الإسم تغمره سحائب الرحمة، فلا يجد نفسه بمعزل عنها، بل يجد نفسه مدفوعاً بشوق وشغف إلى تكرار هذا الاسم في دعائه مرة بعد مرة، وهو في كل مرة يجد له حلاوة لا يجدها في أي اسم آخر من أسمائه الحسنى مع أنها جميعاً في مستوى واحد من الجلال والجمال والكمال.

خصائص هذا الاسم:

ومن خصائص هذا الاسم أنه لا يجوز لأحد أن يلقب نفسه به فيقول: أنا رحمن، وإن جاز له أن يلقب نفسه بغيره من الأسماء فيزعم أنه رحيم أو كريم أو حليم.

وقد تجرأ واحد من أسلاف العرب وأسوئهم طبعاً وسمى نفسه بالرحمن وهو مسيلمة الكذاب، فشاع بين الأعراب أنه رحمن اليمامة، فلقبه النبي صلى الله عليه وسلم بالكذاب، ولعنه الله وطرده من رحمته، وقتله بأيدي المسلمين في اليمامة شر قتلة.

ويروى أن أبا جهل سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الحجر يدعو: (يا الله، يا رحمن)، فرجع إلى المشركين فقال: إن محمدا يدعو إلهين؛ يدعو الله، ويدعو إلها آخر يسمى الرحمن، ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، فنزل قول الله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (110) سورة الإسراء.2

ومن عجب أمر المشركين أنهم كانوا يقولون على سبيل العناد والتحدي: يا محمد، نحن لا نعرف الرحمن فلماذا تذكره؟! مع أنهم يعرفون هذا الإسم، وقد ورد ذكره في أشعارهم وأخبارهم، كما هو منصوص عليه في كتب الأدب والأثر.

وقد سجل الله إنكارهم لهذا الإسم العظيم وتبجحهم بذلك في سورة الفرقان فقال جل شأنه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (60) سورة الفرقان.

ولقد واسى الله نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام في سورة الرعد مواساة قد اطمأن لها قلبه، وسكنت بها جوارحه، فقال سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (30) سورة الرعد.

ولعظمة هذا الاسم وصف الله به نفسه في كتابه العزيز للدلالة على الكبرياء والهيبة والسلطان والتدبير، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) سورة طـه.

ولو كانت الآية: (الله على العرش استوى) ما كان في ذلك من بأس، ولكن ذكر الرحمن هنا يشعر بأن الله عز وجل قد استوى على العرش، استواء يليق بذاته لا نعلمه، فكان استواؤه عليه مصدر رحمة يطمع فيها من آمن بها، وعرفه بنعوته الكمالية.

قال بعض علماء التفسير:" لفظ الجلالة يشعر بالجلال والمهابة، والرحمن يشعر بالسرور والحبور، ويبعث في النفوس الأمل والرجاء، ويطرد عنها شبح اليأس والقنوط ".

ولو تتبعت كتاب الله تبارك وتعالى لوجدت أن الله عز وجل إذا أراد أن يخيف عباده ليرتدعوا عن غيهم عبر بلفظ الجلالة، كما في قوله تعالى في سورة الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (2) سورة الأنفال.

وإذا أراد جل شأنه أن يدني عباده من حضرة قدسه، ويعطيهم عظيم الرجاء في رحمته عبر باسمه الرحمن كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (96) سورة مريم.

اسم الله الرحيم:

أما الرحيم فهو الاسم الثالث من أسماء الذات العلية، يقترن بالاسم الثاني ويلازمه، ويدل على ما يدل عليه مع فارق يسير بينهما.

قال ابن جرير: بسنده عن العَرْزَميّ يقول: الرحمن الرحيم، قال: الرحمن لجميع الخلق، والرحيم قال: بالمؤمنين. قالوا: ولهذا قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (59) سورة الفرقان. وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) سورة طـه، فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته، وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (43) سورة الأحزاب، فخصهم باسمه الرحيم، قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه، والرحيم خاصة بالمؤمنين، لكن جاء في الدعاء المأثور: رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.

وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن؛ لأنه أكَّد به، والتأكيد لا يكون إلا أقوى من المؤكَّد.

والجواب أن هذا ليس من باب التوكيد، وإنما هو من باب النعت بعد النعت، ولا يلزم فيه ما ذكروه، وعلى هذا فيكون تقدير اسم الله الذي لم يسم به أحد غيره، ووصفه أولاً بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (110) سورة الإسراء. وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة، وأما الرحيم: فإنه تعالى وصف به غيره حيث قال: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة. كما وصف غيره بذلك من أسمائه في قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (2) سورة الإنسان.

إن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره، كاسم الله والرحمن والخالق والرزاق ونحو ذلك؛ فلهذا بدأ باسم الله، ووصفه بالرحمن؛ لأنه أخص وأعرف من الرحيم؛ لأن التسمية أولا إنما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص.

فإن قيل: فإذا كان الرحمن أشد مبالغة؛ فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد روي عن عطاء الخراساني ما معناه: أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن، جيء بلفظ الرحيم ليقطع التوهم بذلك، فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى. كذا رواه ابن جرير عن عطاء. ووجهه بذلك، والله أعلم.3

فالرحمن: صاحب الرحمة العامة في الدنيا لجميع الخلق، وصاحب الرحمة العامة للمؤمنين يوم القيامة.

والرحيم: هو صاحب الرحمة العامة للمؤمنين وغيرهم في الدنيا كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (143) سورة البقرة. أي: رحيم بجميع الناس على اختلاف أجناسهم ومللهم.

أما في الآخرة فهو رحيم بالمؤمنين دون غيرهم، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (43) سورة الأحزاب.

الفرق بين اسم الرحمن والرحيم:

والفرق الذي بينهما أن الرحمن اسم ذات بمعنى: أنه رحمن في ذاته، والرحيم صفة فعل يتعلق بالعباد، فهو يرحمهم برحمته، ويتولاهم بعنايته، ويسبغ عليهم نعمة ظاهرة وباطنة.

وقال بعض المفسرين في الفرق بين هذين الإسمين العظيمين:

الرحمن: هو مصدر الرحمة، أي: منه تنشق ومنه تستمد.

والرحيم: هو منشأ الرحمة ومهديها لمن يشاء من عباده، وهو قريب مما سبق قوله.

قال ابن عثيمين -رحمه الله-: والرحمة التي أثبتها الله لنفسه رحمة حقيقية دلّ عليها السمع، والعقل؛ أما السمع فهو ما جاء في الكتاب، والسنّة من إثبات الرحمة لله. وهو كثير جداً؛ وأما العقل: فكل ما حصل من نعمة، أو اندفع من نقمة فهو من آثار رحمة الله.4

وجاء اسم الرحيم بعد اسم الرحمن في سورة البسملة وغيرها ليبعث في المؤمنين الرجاء والطمع في رحمته فإنه إذا سمع العبد "بسم الله الرحمن" ربما وقع في نفسه إنه رحمن في ذاته لا تتعدى رحمته إلى مخلوقاته، فإذا سمع اسم الرحيم وقر في قلبه أن الرحمة كما هي من أوصاف ذاته هي من أوصاف أفعاله، فيطمع فيها ويرتجيها، ويتعرض لها بالطاعة والانقياد.

ومن هنا نعلم أن هذين الإسمين رفيقان متلازمان، ولكن لكل منهما معنى قائم به، وليس بينهما ترادف من جميع الوجوه، إذ لا يوجد في القرآن الكريم كلمتان مترادفتان تؤكد إحداهما الأخرى دون أن يكون لكل منهما معنى يخصه، يعرفه من يعرفه، ويجهله من يجهله.

بعض أسرار الرحمن الرحيم:

أسماء الله الحسنى بها أسماء متشابهة في معانيها ولكنها مختلفة في مراميها، على أي وجه من وجوه المخالفة، كالقادر والقدير، والعالم والعليم، والبارئ والمصور، إلى آخر ما هنالك من الأسماء المتشابهة في معانيها.

ولا ينبغي أن تفهم من هذا أن بين صفات الله تفاوتاً في القوة والضعف، فنقول: علام أبلغ من عليم، وعليم أبلغ من عالم، وغفار أبلغ من غفور، وغفور أبلغ من غافر، وصفاته جل شأنه كلها في منتهى الكمال، لكن كل اسم من أسمائه الحسنى له وقع خاص في النفوس المؤمنة في كل حال من حالاتها، وفي كل وقت من أوقاتها.

فالمؤمن أحياناً يجد حلاوة في ذكر الله باسم الرحمن فيذكره به فإذا انتقل إلى الرحيم، وذكر الله به وجد لذكره في قلبه حلاوة، وهكذا في سائر أسمائه وصفاته هي حلاوة تتنوع ولا تختلف، وتلتقي كل أنواعها عند مقام الحب، وهو مقام عظيم ويجد منه المؤمن الروح والريحان، والأنس والأمان، والرضا التام بقضاء الله وقدره.

فهذين الإسمين مع الكلام الأول على الذات العلية، مفتاح لكل خير، ومغلاق لكل شر؛ لهذا افتتح الله كتابه العزيز بالبسملة، وجعلها فاتحة لكل سورة من سوره، ليشعر كل مؤمن بأنه لا ملجأ له من الله إلا إليه، ولا خير يأتيه إلا من قبله، ولا يدفع الشر عنه أحد سواه.5


 


1 مقدمة كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى).

2 تفسير البغوي (4/318) بتصرف.

3 تفسير القرآن العظيم لابن كثير: دار طيبة للنشر والتوزيع: ط2: 1420هـ – 1999 م (1/126).

4 تفسير ابن عثيمين، المصدر: http://www.ibnothaimeen.com

5 أكثر هذا الدرس أخذ من كتاب أسماء الله الحسنى-آثارها وأسرارها: تأليف الدكتور/ محمد بكر إسماعيل، المصدر: http://www.massrawi.com بتصرف.