اليهود والعهود

اليهود والعهود

 

اليهود والعهود

 

المقدمــة:

الحمد لله الملك العلام، والصلاة والسلام على خير الأنام، ومسك الخاتم، محمد وعلى آله وأصحابه مصابيح الظلام، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المقام.

أما بعد:

فإن بني إسرائيل"يهود" لا يرعون عهداً ولا ذمة، وهذا ما عرف عنهم على مدار التاريخ،وذلك ما جاء توضيحُهُ في الكتاب المبين، وفي سنة سيِّدِ المرسلينَ، ولنذكر بعض آيات القرآن الكريم التي تُوضِّح لنا طبيعة اليهود وتعاملهم مع العهود والمواثيق التي أخذها الله عليهم،والله نسأل أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا،وأن يجعل القرآن حجة لنا لا علينا، وأن يرزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيه عنا. آمين.

الآيـات:

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } سورة البقرة: 83-86 .

شـرح الآيـات:

قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أي اذكروا إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، و"الميثاق" هو: العهد و{إسرائيل} هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام؛ وبنوه: ذريته من ذكور، وإناث، و "بنو إسرائيل" بنو عم للعرب؛ لأن العرب من بني إسماعيل؛ وهؤلاء بنو يعقوب بن إسحاق؛ وجدهم واحد. وهو إبراهيم، وهذا الميثاق الذي أخذه الله عليهم بينه الله بقوله:{لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}. وعلى هذا فالميثاق اشتمل على الأمورِ التَّاليةِ:

الأول: أن لا يعبدوا إلا الله؛ لقوله: {لا تعبدون إلا الله}؛ و "العبادة" معناها: الذل، والخضوع؛ مأخوذة من قولهم طريق معبَّد. أي مذلَّل.

الثاني: الإحسان إلى الوالدين؛ لقوله: {وبالوالدين إحساناً} أي أحسنوا إلى الوالدين إحساناً؛ وهو شامل للإحسان بالقول، والفعل، والمال، والجاه، وجميع طرق الإحسان. والمراد بـ "الوالدين" الأب، والأم، والأباعد لهم حق؛ لكن ليسوا كحق الأب، والأم الأدنيين، ولهذا اختلف إرثُهم، واختلف ما يجبُ لهم في بقيةِ الحقوقِ.

الثالث: الإحسان إلى القرابة؛ لقوله:{وذي القربى}؛ وهي معطوفة على قولِهِ: {بالوالدين}؛والمعنى: وإحساناً بذي القربى؛ و{ذي} بمعنى صاحب؛و{القربى} بمعنى القرابة؛ويشمل: القرابة من قِبَلِ الأم؛ والقرابة من قِبَلِ الأب؛ لأن {القربى} جاءت بعد "الوالدين" أي القربى من قِبَل الأم، ومن قِبَل الأب.

الرابع: الإحسان إلى اليتامى؛ لقوله: {واليتامى} جمع يتيم، وهو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ من ذكرٍ أو أنثى،وأوصى الله-تعالى-باليتامى؛ لأنه ليس لهم من يُربِّيهم، أو يعولهم؛ فهم محل للرأفة، والرحمة، والرعاية.

الخامس: الإحسان إلى المساكين؛ لقوله: {والمساكين} جمع مسكين، وهو الفقير الذي أسكنه الفقر؛ لأن الإنسان إذا اغتنى-غالباً- فإنه يطغى، ويزداد، ويرتفع، ويعلو-إلا من رحم الله-؛ وإذا كان فقيراً فإنه بالعكس،وهنا يدخل الفقراء مع{المساكين}؛ لأن "الفقراء"، و"المساكين" من الأسماء التي إذا قُرنت افترقت؛ وإذا افترقت اجتمعت؛ فكلمة "الفقراء" إذا كانت وحدها شملت الفقراء، والمساكين؛و"المساكين" إذا كانت وحدها شملت الفقراء، والمساكين؛ وإذا قيل: فقراء ومساكين؛ مثل آية الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} سورة التوبة للفقراء: 60. صار "الفقراء" لها معنى؛ و"المساكين" لها معنى. فلمَّا اجتمعت افترقت؛ فـ"الفقير" من لا يجد شيئاً من الكفاية، أو يجد دون النصف. و"المسكين" من يجد نصف الكفاية دون كمالها- هذا في بعض الأقوال- وقيل غير ذلك.

السادس: أن يقولوا للناس قولاً حسناً؛ لقوله: {وقولوا للناس حسناً} اختُلف في المراد بالقول الحسن، ولعل أجمع الأقوال أن القول الحسن يشمل: الحسن في هيئته؛وفي معناه، ففي هيئته:أن يكون باللُّطف، واللين، وعدم الغلظة، والشدة، وفي معناه: بأن يكون خيراً؛ لأن كل قولٍ حسنٍ فهو خير؛ وكل قول خير فهو حسن.

السابع: إقامة الصلاة؛ لقوله:{وأقيموا الصلاة} أي ائتوا بها قويمة ليس فيها نقص؛ وذلك بأن يأتوا بها بشروطها، وأركانها، وواجباتها؛ وكمال ذلك أن يأتوا بمستحباتها؛ و{الصلاة} تشمل الفريضة، والنافلة.

الثامن: إيتاء الزكاة؛ لقوله: {وآتوا الزكاة} أي أعطوها مستحقيها؛ و "الزكاة" هي النصيب الذي أوجبه الله لمستحقه في الأموال الزكوية. ومع أن الله أخذ على بني إسرائيل هذه المواثيق والعهود، وبينها لهم، فإنهم تولوا عنها وأعرضوا عنها، وكأنه لم تكن هناك عهود ولا مواثيق، وهذه هي الطبيعة اليهودية أبداً، فقال –تعالى- بعد ذلك: {ثم توليتم إلا قليلاً منكم} التولي هو: ترك الشيء وراء الظهر؛ وهذا أبلغ من الإعراض؛ لأن الإعراض قد يكون بالقلب، أو بالبدن مع عدم استدبار. قوله: {وأنتم معرضون} هذه جملة حالية؛ أي توليتم في إعراض؛ وذلك أن المتولي قد لا يكون عنده إعراض في قلبه، فقد يتولى بالبدن، ولكن قلبه مُتعلِّق بما وراءه؛ ولكن إذا تولى مع الإعراض فإنه لا يُرجى منه أن يُقْبِل بعد ذلك.

قوله:{وإذ أخذنا ميثاقكم} يذَكِّرهم الله-سبحانه وتعالى-بالميثاق الذي أخذه عليهم؛ وبين الله-تعالى- الميثاق هنا بأمرين:

الأول: قوله: {لا تسفكون دماءكم} أي لا تهريقونها. والمراد بسفك الدم: القتل بغير حق.و{دماءكم} أي دماء بعضكم؛ لأن الأمة الواحدة كالجسد الواحد.

الأمر الثاني: قوله:{ولا تخرجون أنفسكم من دياركم}؛ أي لا يُخرج بعضُكم بعضاً من داره؛ والإخراج من الوطن لاشك أنه شاقٌّ على النفوس؛ وربما يكون أشقَّ من القتل.

قوله:{ثم أقررتم وأنتم تشهدون} أي ثم بعد هذا الميثاق بقيتم عليه،وأقررتم به، وشهدتم عليه،ولم يكن الإقرارُ غائباً عنكم، أو منسياً لديكم؛ بعد هذا كله {أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} الخطاب لمن كان في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم-؛ وإنما وجه إليهم؛ لأنهم من الأمة التي فعلت ذلك،ورضوا به.وقوله:{تقتلون أنفسكم} أي يقتل بعضُكم بعضاً؛{وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم} أي تجلونهم عن الديار؛ وهذا ما وقع فعلاً بين طوائف من اليهود قرب بعثة النبي- صلى الله عليه وسلم- حيث قتل بعضُهم بعضاً، وأخرج بعضُهم بعضاً من ديارهم. قوله:{تظاهرون} أي تعالَون؛ لأنَّ الظهور معناه العلوّ؛ كما قال- تعالى-:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} سورة الصف: 9. يعني ليعليه. وقيل:{تظاهرون} أي تعينون من يعتدي على بعضكم في عدوانه.قوله:{بالإثم} أي بالمعصية؛ {والعدوان} أي الاعتداء على الغير بغير حق؛ فكل عدوان معصية؛ وليست كل معصية عدواناً إلا على النفس؛ فالرجل الذي يشرب الخمر عاصٍ، وآثم؛ والرجل الذي يقتل معصوماً آثم، ومعتد؛ والذي يُخرجه من بلده آثم ومعتد؛ ولهذا قال: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان}؛ فهؤلاء بعد ما أخذ عليهم الميثاق مع الإقرار،والشهادة لم يقوموا به؛ أخرجوا أنفسهم من ديارهم، وتظاهروا عليهم بالإثم، والعدوان. قوله: {وإن يأتوكم} أي يجيئون إليكم؛{أسارى} جمع أسير؛ وتجمع أيضاً على أسرى؛ كما في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى} سورة الأنفال: 70. والأسير هو الذي استولى عليه عدوه. و{تفادوهم} أي تفكونهم من الأسر بفداء. قوله: {وهو محرم عليكم إخراجهم} يعني: تفدون المأسورين وهو محرم عليكم إخراجهم من ديارهم؛ فأنتم لم تقوموا بالإيمان بالكتاب كله؛ ولهذا قال مستفهماً استفهاماً استنكارياً توبيخياً: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} ووجه كونهم يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض أنهم كفروا بما نهوا عنه من سفك الدماء، وإخراج أنفسهم من ديارهم؛ وآمنوا بفدائهم الأسرى؛ والذي يعبد الله على هذه الطريق لم يعبد الله حقيقة؛وإنما عبد هواه؛ فإذا صار الحكم الشرعي يناسبه قال: آخذ به؛ وإذا كان لا يناسبه راوغ عنه بأنواع التحريف،والتماس الأعذار.قوله: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة} أي ما ثوابكم على عملكم هذا إلا خزي في الحياة الدنيا، وهو الذلُّ والصَّغَار {ويوم القيامة} أي يوم البعث.{يردون إلى أشد العذاب} أي أعظمه {وما الله بغافل} نفى الله-سبحانه وتعالى-عن نفسه صفة الغفلة؛وذلك لكمال علمه، ومراقبته؛ وهذه من الصفات السلبية التي يُنزه الله عنها، و{عما تعملون}.

 قوله: {أولئك} المشار إليهم هؤلاء اليهود الذين نقضوا العهد؛{اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} أي اختاروا الدنيا على الآخرة؛ فالآخرة عندهم مزهود فيها مبيعة؛ والدنيا مرغوب فيها مشتراة.وقوله: {بالآخرة} الباء هنا للبدل؛ وهي تدخل دائماً على الثمن، كقولهم: "اشتريت الثوب بدينار". قوله: {فلا يخفف عنهم العذاب} أي لا يهوَّن عنهم لا زمناً، ولا شدة، ولا قوة؛ {ولا هم ينصرون} أي ولا أحد يمنع عنهم عذاب الله.

بعض فوائـد الآيات:

1.  أن التوحيد جاءت به الرسل جميعاً؛ لقوله:{لا تعبدون إلا الله}، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}سورة النحل:36.

2.  عظم حق الوالدين حيث قرن الله حقهما بتوحيده، وقرن شكره بشكرهما؛ فقال- تعالى-:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}سورة الإسراء: 23. وقال:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} سورة لقمان:14.

3.    وجوب الإحسان إلى ذوي القربى،وإلى اليتامى والمساكين،وذلك يشمل الإحسان بالفعل والقول،وترك الإساءة إليهم قولاً أو فعلاً.

4.    الحث على التخلق بمكارم الأخلاق، فعلى الإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطاً طلقاً.

5.    وجوب إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة على الوجه المطلوب شرعاً.

6.    أن بني إسرائيل مع هذا الميثاق الذي أخذه الله عليهم لم يقوموا به إلا القليل منهم.

7.  أن بني إسرائيل أُخذ عليهم تحريم قتال بعضهم بعضاً؛ وتحريم إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم، ولكنهم تمردوا وتولوا، ونقضوا المواثيق التي أخذت عليهم، فصار يقتل بعضهم بعضاً، ويخرج بعضهم بعضاً من ديارهم.

8.  توبيخ من اختار الدنيا واستحبها وفضلها على الآخرة؛ وهو مع كونه ضلالاً في الدين؛ فإنَّه يدل على سفه في العقل؛ فإنَّ الدنيا متاعها قليل ثم يفنى؛ والآخرة خير وأبقى1. والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.


1 راجع: " انظر: جامع البيان في تأويل القرآن لمحمد بن جرير الطبري(1/287- 320). ط: دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان. الطبعة الأولى(1421هـ). " و" الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي(1/330- 376). الطبعة الثانية. وتفسير القرآن العظيم " للحافظ ابن كثير(1/79-85). ط: دار الحديث القاهرة. الطبعة السادسة. (1413هـ). مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة. " و" فتح القدير " للشوكاني (1/115- 128). المكتبة التجارية. مصطفى أحمد الباز. مكة المكرمة. الطبعة الثانية. و" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" لابن سعدي(1/55- 59). طبع ونشر وتوزيع دار المدني بجدة. (148هـ). و" تفسير ابن عثيمين" المجلد الأول. و" أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير " لأبي بكر الجزائري(1/48- 52). الطبعة الأولى الخاصة بالمؤلف(1414هـ)."