لايمنعك اليمين من فعل الخير

لا يمنعك اليمين من فعل الخير!

 

الحمد الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن بعض الناس قد يمنع عن نفسه فعل الخير، والإحسان إلى الغير، وذلك بأن يحلف بالله، أو بأي اسم من أسمائه أو أي صفة من صفاته بأن لا يفعل المعروف أو لا يصلح بين متخاصمين أو لا يصل رحمه لسبب من الأسباب، أو غير ذلك من وجوه البر وأنواع الخير.

 

والله -جل جلاله- قد بين في كتابه أنه لا يجوز أن نجعل أيماننا  مانعة من فعل الطاعات والقربات، أو من الإحسان إلى ذوي القرابات، أو ما إلى ذلك من سائر الطاعات، ومن فعل شيئا من ذلك فعليه التراجع عن يمينه والتكفير عنه.

وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بذلك، فمن تلك النصوص ما جاء في قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} سورة البقرة(224-225).

 

شرح الآيتين:

المقصود من اليمين، والقسم تعظيم المقسم به، وتأكيد المقسم عليه، وكان الله –تعالى- قد أمر بحفظ الأيمان، وكان مقتضى ذلك حفظها في كل شيء، ولكن الله –تعالى- استثنى من ذلك إذا كان البر باليمين، يتضمن ترك ما هو أحب إليه، فنهى عباده أن يجعلوا أيمانهم عرضة، أي: مانعة وحائلة عن أن يبروا: أن يفعلوا خيرا، أو يتقوا شرا، أو يصلحوا بين الناس، فمن حلف على ترك واجب وجب حنثه، وحرم إقامته على يمينه، ومن حلف على ترك مستحب، استحب له الحنث، ومن حلف على فعل محرم، وجب الحنث، أو على فعل مكروه استحب الحنث، وأما المباح فينبغي فيه حفظ اليمين عن الحنث1.

 

ونظير هذه الآية قوله تعالى في حَلِف أبي بكر -رضي الله عنه- أن لا ينفق على مسطح لمّا قال في عائشة -رضي الله عنها- ما قال، قال سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة النور(22). وقوله صلى الله عليه وسلم: (والله لئن يَلِج أَحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفَّارته التي افترض الله عليه)2. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إني والله -إن شاء الله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها)3. وقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسال الإمارة فإنَّك إن أُعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أُعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير، وكفِّر عن يمينك)4. والأحاديث في هذه المسألة كثيرة.

 

وهذا هو الحق في هذه المسألة، خلافاً لمن قال: كفارتها تركها، متمسكاً بأحاديث وردت في ذلك، قال أبو داود: “والأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كلها: (فليكفر عن يمينه) وهي الصحاح”5.

والمراد باللغو في الآية أقوال أشهرها عند العلماء اثنان:

الأول: أن اللغو ما يجري على لسان الإنسان من غير قصد؛ كقوله: “لا والله” و “بلى والله”.

القول الثاني: أن اللغو هو أن يحلف على ما يعتقده، فيظهر نفيه.

والقولان متقاربان، واللغو يشملهما؛ لأنه في الأول لم يقصد عقد اليمين أصلاً، وفي الثاني لم يقصد إلا الحقّ والصواب6.

ثم ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين، فقال: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} أي لجميع الأصوات {عَلِيمٌ} بالمقاصد والنيات، ومنه سماعه لأقوال الحالفين، وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر، وفي ضمن ذلك التحذير من مجازاته، وأن أعمالكم ونياتكم، قد استقر علمها عنده7.

 

ما يؤخذ من الآيتين:

1.  نهي الإنسان عن جعل اليمين مانعة له من فعل البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس؛ والنهي للتحريم إذا كانت مانعة له من واجب؛ وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير)8.

2.  يستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة، أنه “إذا تزاحمت المصالح، قدم أهمها “فهنا تتميم اليمين مصلحة، وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء مصلحة أكبر من ذلك، فقدمت لذلك9.

3.  الحث على البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس؛ وجهه: أنه إذا كان الله نهانا أن نجعل اليمين مانعاً من فعل البر فما بالك إذا لم يكن هناك يمين.

4.  تحذير الإنسان من المخالفة؛ وجهه: أنه إذا كان الله سميعاً عليماً فإياك أن تخالف ما أمرك به؛ فإنك إن خالفته بما يُسمَع سَمِعك؛ وبما يُعلَم عَلِمك؛ فاحذر الله عزّ وجلّ10.

5.  أن اليمين اللغو لا مؤاخذة فيها، أي لا عقوبة عليها في الآخرة، ولا كفارة لها في الدنيا؛ لقوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ}.

6.  أن المؤاخذة والمعاقبة تكون على ما انعقد في القلب؛ لقوله: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}. وذلك فيما جاء النص ببيانه.. وأما نحن البشر فنعامل الناس بحسب ما يظهرون لنا من الخير أو الشر، ونكل سرائرهم إلى الله..

7.  أن للقلوب كسباً وعملاً كما للجوارح؛ فأما ما حدَّث به الإنسان نفسه دون اطمئنان إليه فإنه لا يؤاخذ به؛ لأنه ليس بعمل؛ ولهذا جاء في الحديث قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم)11.

8.    أن لا نيأس من رحمة الله؛ لأنه غفور، وأن لا نأمن مكر الله؛ لأنه حليم، فيكون العبد سائراً إلى الله بين الخوف والرجاء والمحبة.

فائدتان:

الأولى: في أنواع الأيمان:

اعلم أنّ اليمين إما أن تكون بعقد قلب وقصد، أو لا، بل تجري على اللسان بغير عقد قلب وإنما تقع بحسب ما تعوّده المتكلم سواء كانت بإثبات أو نفي نحو: والله، وبلى والله، ولا والله، فهذه هي اللغو الذي قال الله تعالى فيه: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}.

وإن كانت عن عقد قلب فينظر إلى حال المحلوف عليه، فينقسم بحسبه إلى أقسام خمسة: إما أن يكون معلوم الصدق، أو معلوم الكذب، أو مظنون الصدق، أو مظنون الكذب، أو مشكوكاً فيه.

 

فالأول: يمين برّة صادقة، وهي التي وقعت في كلام الله –تعالى- نحو: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} سورة الذاريات(23). ووقعت في كلام رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم-. قال ابن القيم: “إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حلف في أكثر من ثمانين موضعاً، وهذه هي المرادة في حديث: (إن الله –تعالى- يحب أن يحلف به)12. وذلك لما يتضمن من تعظيم الله –تعالى-.

 

والثاني: وهو معلوم الكذب، اليمين الغموس، ويقال لها: الزور والفاجرة، وسميت في الأحاديث: يمين صبر، ويميناً مصبورة، قال في النهاية: سميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في النار13.

واليمن الغموس لها صور متعددة: أن يحلف على ماض أنه واقع، وهو يعلم عدم وقوعه متعمداً الكذب فهي يمين غموس، -وكذلك- إن كان شاكاً فهو كالغموس، وجعله بعضهم من الغموس.

وإن حلف على مستقبل لا يدري أيقع أم لا فهو كذلك أيضاً يدخل في يمين الغموس، وأكثر العلماء على أن يمين الغموس لا تُكفَّر لأنها أعظم إثماً من أن تُكفِّرها كفّارة اليمين14.

الثالث: ما انكشف فيه الإصابة فهذا ألحقه البعض بما علم صدقه إذ بالانكشاف صار مثله. والثاني: ما ظن صدقه وانكشف خلافه، وقد قيل: لا يجوز الحلف في هذين القسمين؛ لأن وضع الحلف لقطع الاحتمال فكأن الحالف يقول: أنا أعلم مضمون الخبر وهذا كذب فإنه إنما حلف على ظنه.

الرابع: ما ظن كذبه والحلف عليه محرم.

الخامس: ما شك في صدقه وكذبه وهو أيضاً محرم، فتلخص أنه يحرم ما عدا المعلوم صدقه15.

 

الفائدة الثانية: أحد ثلاثة أشياء يخرج بها من عهدة اليمين:

الأول: إبرارها بفعل ما حلف عليه.

الثاني: الكفَّارة، وهي جائزة قبل الحنث وبعده على التحقيق.

الثالث: الاستثناء بنحو إن شاء الله، والتحقيق أنه حل لليمين لا بدل من الكفارة، كما زعمه ابن الماجشون، ويشترط فيه قصد التلفُّظ به، والاتصال باليمين، فلا يقبل الفصل بغير ضروري كالسعال، والعُطاس، وما ذهب إليه ابن عباس وغيره من جواز تراخي الاستثناء، فالتحقيق فيه أن المراد به أن العبد يلزمه إذا قال: “لأفعلنَّ كذا” أن يقول: “إن شاء الله”؛ كما صرح به تعالى في قوله: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} سورة الكهف(23-24). فإن نسي الاستثناء بإن شاء، وتذكره ولو بعد فصل، فإنه يقول: “إن شاء الله” ليخرج بذلك من عهدة عدم تفويض الأمور إلى الله وتعليقها بمشيئته، لا من حيث إنه يحل اليمين التي مضت وانعقدت. ويدل لهذا أنه تعالى قال لأيُّوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ} سورة ص(44).. ولو كان تدارك الاستثناء ممكناً لقال له قل: “إن شاء الله”. ويدل له أيضاً أنه ولو كان كذلك لما علم انعقاد يمين لإمكان أن يلحقها الاستثناء المتأخر، واعلم أن الاستثناء بـ: “إن شاء الله” يفيد في الحلف بالله إجماع16.

والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 تفسير السعدي (1 / 100).

2  متفق عليه من حديث أبي هريرة.

3  متفق عليه أيضاً من حديث أبي موسى.

4  متفق عليه.

5  راجع أضواء البيان(1/451).

 6  أضواء البيان(1447).

7  تفسير السعدي (1/101).

8 تفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث. والحديث رواه البخاري ومسلم.

9 تفسير السعدي (1/101)

10  تفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث.

11  رواه البخاري.

12  أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء، وقال الألباني: “صحيح”؛ كما في صحيح الجامع، رقم (211).

13 سبل السلام(1/214).

14  أضواء البيان(1/448).

15 سبل السلام(1/214).

16 انظر: أضواء البيان(1/449).