الجامعة الأولى

الجـامعة الأولـى

 

الجـامعة الأولـى

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.. أما بعد:

فإن من أول ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما دخل المدينة أن بنى المسجد الذي هو الجامعة الأولى التي يتخرج منها المسلم، ومكان عبادة الله رب العالمين، تلقى فيه المواعظ والتوجيهات، والخطب النافعات، وتجيش منه الجيوش، وتربى فيه الأجيال، ويأوي إليه المسكين، ويستريح بظله المتعبون من عناء الحياء وشقاء البعد عن الله، مع ما فيه من اجتماع المسلمين وتآلف قلوبهم، وتعاونهم على البر والتقوى..

عن بناء المسجد النبوي وما جرى في ذلك من أحداث يحدثنا أنس بن مالك -رضي الله عنه- كما ذكر ذلك الإمام البخاري -رحمه الله- حيث يقول:

حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد، قال: سمعت أبي يحدث فقال: حدثنا أبو التياح يزيد بن حميد الضبي، حدثنا أنس بن مالك قال: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاءوا متقلدي سيوفهم، قال: وكأني أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على راحلته، وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب، قال: فكان يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، قال: ثم أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ بني النجار فجاءوا فقال: (يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا) فقالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله -عز وجل-. قال: فكان فيه ما أقول لكم، كانت فيه قبور المشركين، وكانت فيه خرب، وكان فيه نخل، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، قال: فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فجعلوا ينقلون ذلك الصخر وهم يرتجزون، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم يقول: (اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فانصر الأنصار والمهاجرة). وقد ثبت في صحيح البخاري في موضع آخر عن الزهري عن عروة أن المسجد الذي كان مربداً -وهو المكان الذي يجفف فيه التمر- كان ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة، وهما سهل وسهيل فساومهما فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى حتى ابتاعه منهما وبناه مسجداً.. فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول -وهو ينقل معهم التراب-: 

(هذا الحمال لا حمال خيبر … هذا أبرُّ ربنا وأطهر)

ويقول:

(اللهم إن الأجرَ أجرُ الآخرة … فارحم الأنصارَ والمُهاجرة)

وقد يشكل على البعض قولهم: (والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله -عز وجل-) مع القول في الرواية الأخرى (فأبى حتى ابتاعه منهما) حيث يفهم من الرواية الأخرى أهم لم يقبلوا منه ثمنها، بل جعلوا أجرها على الله، وفي الرواية الثانية دلالة على أنه -صلى الله عليه وسلم- دفع أجرة الأرض لليتيمين..! وعلى هذا الإشكال يجيب ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- فيقول: (لا منافاة بينهما، فيجمع: بأنهم لما قالوا لا نطلب ثمنه إلا إلى الله سأل عمن يختص بملكه منهم، فعينوا له الغلامين فابتاعه منهما، فحينئذ يحتمل أن يكون الذين قالوا له لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تحملوا عنه للغلامين بالثمن، وعند الزبير: أن أبا أيوب أرضاهما عن ثمنه).1

عمار بن ياسر والمسجد:

ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- كان ممن شارك في بناء المسجد النبوي، وكان -من شدة تفاعله مع هذا العمل العظيم- يحمل لبنتينِ، بينما الناس يحملون لبنة واحدة.. فعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: لما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يبنون المسجد جعل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل كل واحد لبنةً لبنة، وعمار يحمل لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمسح ظهره وقال: (ابن سمية! للناس أجر ولك أجران، وآخِرُ زادِك شربةٌ من لبن، وتقتلك الفئةُ الباغية).2

قال ابن كثير: ولم يكن في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- أول ما بني منبر يخطب الناس عليه، بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس وهو مستند إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلي، فلما اتخذ له -عليه السلام- المنبر.. وعدل إليه ليخطب عليه فلما جاوز ذلك الجذع خار ذلك الجذع وحن حنين النوق العشار؛ لما كان يسمع من خطب الرسول -عليه السلام- عنده فرجع إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحتضنه حتى سكن كما يسكن المولود الذي يسكت… وما أحسن ما قال الحسن البصري بعد ما روى هذا الحديث عن أنس بن مالك: (يا معشر المسلمين! الخشبة تحن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شوقاً إليه، أو ليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه)؟!!3

مسكن الرسول:

بعد أن تم بناء المسجد النبوي الشريف بُني لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حوله حُجَرٌ -أي غرف- لتكون مساكن له ولأهله، وكانت مساكن قصيرة البناء قريبة الفناء، قال الحسن بن أبي الحسن البصري وكان غلاماً مع أمه (خيرة) مولاة أم سلمة: لقد كنت أنال أطول سقف في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- بيدي.. وقد كان الحسن البصري ضخماً طويلاً -رحمه الله-.

وكانت مساكنه -عليه السلام- مبنية من جريد عليه طين، بعضها من حجارة مرضومة وسقوفها كلها من جريد.. وكانت حُجره من شعر مربوطة بخشب من عرعر، وفي تاريخ البخاري أن بابه -عليه السلام- كان يقرع بالأظافير)4 فدل على أنه لم يكن لأبوابه حِلق، وقد أضيفت الحُجر كلها بعد موت أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد.5

المسجد النبوي يُخرج جيلاً لم تسمع بمثله البشرية!

تم بناء المسجد في حدود البساطة، فراشه الرمال والحصباء، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تفلت الكلاب إليه فتغدو وتروح. هذا البناء المتواضع.. هو الذي ربى ملائكة البشر، ومؤدبي الجبابرة، وملوك الدار الآخرة.. في هذا المسجد أذن الرحمن لنبي يؤم بالقرآن خير من آمن به، يتعهدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلى غسق الليل.

إن مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي، فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام، لكن الناس -لما أعياهم بناء النفوس على الأخلاق الجليلة- استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة، تضم مصلين أقزاماً!!

أما الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية أنفسهم وتقويمها، فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام..6

لمثل هذا فليبنى المسجد، فهو قلعة الإيمان، وحصن الفضيلة، وهو المدرسة الأولى التي يتخرج منها المسلم، هو بيت الأتقياء، ومكان اجتماع المسلمين يومياً، ومركز مؤتمراتهم، ومحل تشاورهم وتناصحهم، والمنتدى الذي فيه يتعارفون ويتآلفون، وعلى الخير يتعاونون، منه خرجت جيوشهم، ففتحت مشارق الأرض ومغاربها.. منه تخرج العلماء والفقهاء.

هكذا فهم المسلمون الأولون وظيفة المسجد، وهكذا بنوه، فلم يسرفوا في بنائه، ولم يزخرفوا، ولم يبذروا، ولم ينصرفوا البهرج وزخرفة الظاهر، بل كان مقصدهم جوهر ذلك الصرح العظيم وعظيم دوره في صياغة الشخصية المسلمة، ولذلك ففتح الله على أيديهم مشارق الأرض ومغاربها.

ولما صار المسلمون إلى التبذير والإسراف والزخرفة والمظاهر الفارغة، نزع الله الملك من أيديهم، فصار ما بنوه من المساجد كنائس ومتاحف، لا يُذكر فيها اسم الله الواحد الأحد (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل:33).7

اللهم أعنا على القيام بأمرك، والوقوف عند نهيك، ونعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا..

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..

 


 


1– فتح الباري (7/246) ط: دار المعرفة ، بيروت 1379 هـ.

2– رواه أحمد في مسنده، ورواه عبد الرزاق الصنعاني بهذا السياق. وقال ابن كثير عن إسناد عبد الرزاق: (وهذا إسناد على شرط الصحيحين). (البداية والنهاية 4/536). ط: دار عالم الكتب.. وقد رواه مسلم في صحيحه لكنه ذكر أن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمار كان عند حفر الخندق في غزوة الأحزاب، قال البيهقي -رحمه الله- في الدلائل (2 / 549): يشبه أن يكون ذكر الخندق، وهما في رواية أبي نضرة، أو كان قد قالها عند بناء المسجد، وقالها يوم الخندق، والله أعلم).

قال شعيب الأرناؤوط –عند تعليقه على الحديث (11024) في مسند أحمد-: لا مانع من أنه -صلى الله عليه وسلم- قد قالها عند بناء المسجد، ويوم الخندق، وقد ورد ذكر يوم الخندق من حديث أم سلمة أيضاً بإسناد صحيح). ورواه الترمذي بلفظ: (أبشر عمار، تقتلك الفئة الباغية) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2989).

3– البداية والنهاية (4/541).

4– رواه البخاري في الأدب المفرد. وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (4805).

5– البداية والنهاية (4/545).

6– فقه السيرة للغزالي ص168-169. ط: دار إحياء التراث العربي.

7 – انظر كتاب (المسجد في الإسلام) لـ خير الدين وانلي. في المقدمة.