كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى

كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم-

كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى

الحمد لله الذي بأمره يخضع كل مملوك، ولسلطانه تخنع الملوك، عز جاهه، وتقدست أسماؤه، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم عرباً وعجماً، وعلى آله وصحبه الفائقين كرماً، والسابقين قدماً، والتابعين لهم بإحسان، أما بعد:

فقد كان لدولة الفرس من العظمة المتصدرة شيء كبير، وقد كان لها نفوذ بين القبائل العربية، وسيادة على بعض سادات العرب، وكان لها من السيطرة والسلطنة ما ليس يكون إلا لدولة عظمى، ولكن لما جاءت دولة الإسلام، وقوت شوكتها، وظهرت دعوتها في أصقاع الأرض، توجهت الرسائل والكتب إلى ملوك الدول وزعماء القبائل يُدعون فيها إلى الإسلام، وكان من ضمن من وصلت إليهم الكتب ملك الفرس كسرى، حيث أرسل له النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتاب مع عبد الله بن حذافة السهمي -رضي الله عنه- وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين المنذر بن ساوى العبدي، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى1، وكان نص الكتاب كما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين.

فإن تُسْلم تَسْلم وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك.

فلما قرأه شقه وقال: يكتب إليَّ بهذا وهو عبدي؟2، فدعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يمزقوا كل ممزق3.

ثم كتب كسرى إلى باذان -وهو نائبه على اليمن- أن: ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به.

فبعث باذان قهرمانه -وكان كاتبًا حاسبًا بكتاب فارس-، وبعث معه رجلاً من الفرس آخر، وكتب معهما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، فخرجا حتى قدما على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالا: إن شاهنشاه -ملك الملوك- كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليه من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتب لك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفُّه عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.

ودخلا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال: (ويلكما من أمركما بهذا؟) قالا: أمرنا ربنا -يعنيان كسرى- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي) ثم قال: (ارجعا حتى تأتياني غداً).

وأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله في شهر كذا وكذا في ليلة كذا وكذا من الليل.

فدعاهما فأخبرهما فقال: (أخبروه أن ربي قد قتل ربه الليلة). فقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، أفنكتب عنك بهذا ونخبر الملك باذان؟ قال: (نعم، أخبراه ذاك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى وينتهي إلى الخف والحافر، وقولا له: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك من الأبناء4).

فخرجا من عنده حتى قدما على باذان فأخبراه الخبر فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبيًا كما يقول، وليكونن ما قد قال، فلئن كان هذا حقا فهو نبي مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا.

فلم ينشب باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه: أما بعد، فإني قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضبًا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم ونحرهم في ثغورهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قِبَلَك، وانطلق إلى الرجل الذي كان كسرى قد كتب فيه فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.

فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان قال: إن هذا الرجل لرسول. فأسلم وأسلمت الأبناء من فارس من كان منهم باليمن.

وكان قتل كسرى على يدي ابنه شيرويه ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الآخرة، من سنة سبع من الهجرة لسِتِ ساعاتٍ مضت منها.

وقال بعض شعراء العرب:

وكسرى إذ تقاسمه بنوه

تمخضت المنون له بيوم

 

بأسياف كما اقتسم اللحامُ

أتى ولكـل حاملة تمامُ5

هذه هي قصة كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى باستطراد يسير؛ لاستتمام بعض الفوائد المتعلقة بالقصة في أحد أحداثها، ويمكن ذكر بعض تلك الفوائد فيما يلي:

§        استحباب الابتداء ببسم الله الرحمن الرحيم في الكتب والرسائل.

§        الدعوة إلى الله تعالى بوسائلها الممكنة، واستعمال أنجح وسيلة تقوم عليها، أو يغلب الظن على نجاحها.

§    حسن الخطاب حال الدعوة، واستخدام أيسر العبارات لا سيما إن كان المخاطب غير عربي, وفي خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لكسرى سهولة ويسر.

§    الحكمة في الدعوة وتوضيح المدعو إليه، والتعريف بالنفس، كما عرف بنفسه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: (فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين)، وأيضاً تبيين حقيقة الدعوة.

§        بيان الوعد لمن استجاب والوعيد لمن أخذته العزة بالإثم وما أجاب.

§    الجزاء من جنس العمل، ومن أعرض عن دعوة الحق فإن له معيشة ضنكاً، وهو في الآخرة من الخاسرين، وقد تبين ذلك لكسرى حين مزق كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمزق الله جسده وملكه.

§        صدق نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإخباره بالغيب فيما أعلمه الله تعالى.

§    مخالفة المشركين، واتباع أمر الله تعالى حتى في ما يتعلق بظاهر الإنسان وشكله الخارجي كما بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه مأمور بإعفاء اللحية وقص الشارب. ومسألة حلق اللحى وإعفاء الشوارب هي السائدة اليوم في أوساط المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا فيه مخالفة صريحة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه موافقة صريحة لأعداء الإسلام في مظهرهم سواء كانوا من الأقدمين أو من المعاصرين.

§        البشارة بالنصر لهذا الدين، وأن العاقبة للمتقين، وأن الله -عز وجل- متم نوره ولو كره الكافرون.

§    على المسلم أن يشعر بالعزة والعظمة المكنونة في دين الإسلام، فلا تهزه الشائعات ولا يخاف في الله لومة لائم، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم تهتز له شعرة واحدة حين جاءه رجلان هما من أجلد الفرس ليسوقانه إلى كسرى.

§    سياسة النبي -صلى الله عليه وسلم- في إرسال الرسل، واختيار الرجل المناسب والخطة المناسبة، حيث أمره أن يوصلها للمنذر بن ساوى أمير البحرين ليوصلها هو إلى كسرى، ولعل في هذا حكمة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو لم يكن إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها.

§    من خير الناس من إذا عرف الحق لحق بركبه، وأخذ بعنان فرسه في اتباعه مقبلاً غير مدبر، وقد كان هذا الأمر من باذان ومن معه من الأبناء في اليمن حين علموا بصدق رسالة النبي -عليه الصلاة والسلام- ما وسعهم إلا اتباعه، فكان له أجره وأجر من تسبب في إسلامه.

§        عظة وعبرة من الظالمين، كخبر كسرى وما جرى من تغطرسه وجبروته وتكبره على الحق، فاعتبروا يا أولي الأبصار.

إلى غير تلك من القصص والفوائد التي يسع كل ذي لبٍّ وتأمل أن يستنبطها ويستخرجها مما اختزنته الأوراق وكتب التأريخ الإسلامي، فهي ملأى بالعبر من أحوال من غبر، والمواعظ جلية لكل ملاحظ، والحمد لله رب العالمين.


 


1 فتح الباري لابن حجر: (12/246).

2 السيرة النبوية لابن كثير: (3/508).

3 صحيح البخاري: (62).

4 الأبناء: اصطلاح يطلق على الفرس الذين كانوا يحكمون اليمن في تلك الفترة. (السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية لـ د. مهدي رزق الله أحمد ص: 73).

5 السيرة النبوية لابن كثير: (3/509- 5011) بتصرف.