قسمة غنائم حنين

قسمة غنائم حنين

قسمة غنائم حنين

الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد انجلت معركة حنين سافرة عن نصر مؤزر للجيش الإسلامي، وخزي لهوازن وحلفائها إذ ولوا مدبرين، وقد قتل منهم جمع غير قليل، وجرح عدد كثير، ولما هربوا إلى أوطاس لحق بهم المسلمون فأوقعوا فيهم، وأخذ كل قاتل من المسلمين سلَب مقاتليه، لما أباح ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حين حمي الوطيس.

وقد روي أن السبي يوم حنين قد بلغ ستة آلاف من النساء والأبناء، وأن الأموال كانت أربعة آلاف أوقية فضة، وأن الإبل كانت أربعة وعشرين ألفاً، وأن الشياه أكثر من أربعين ألف شاه1.

وحبس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا السبي والغنائم بالجعرانة ليتصرف فيها بعد الفراغ من أمر الطائف، فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بسر بن سفيان الخزاعي يقدم مكة فيشتري للسبي ثياباً يكسوها، ثياب المعقد فلا يخرج المرء منهم إلا كاسيا، فاشترى بسر كسوة فكسا السبي كلهم2.

ثم بدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل فقال: ابني يزيد؟ فقال: (أعطوه أربعين أوقية ومائة من الإبل)، فقال: ابني معاوية؟ قال: (أعطوه أربعين أوقية ومائة من الإبل)، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخرى فأعطاه، وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة مائة من الإبل، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفي خمسين، وأعطى العباس بن مرداس أربعين، فقال في ذلك شعراً، فكمل له المائة، ثم أمر زيد بن ثابت بإحصاء الغنائم والناس، ثم فضها على الناس فكانت سهامهم لكل رجل أربعاً من الإبل وأربعين شاة، فإن كان فارساً أخذ اثني عشر بعيراً وعشرين ومائة شاة3.

وكان المقصد التربوي الحكيم أن يبذر حب الإسلام في حُدثاء العهد بالكفر، تأليفاً لقلوبهم، واستمالة لنفوسهم، فعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ: أَسْلِمُوا فَوَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ، فَقَالَ أَنَسٌ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا)4.

وقد تأثر حدثاء الأنصار من هذا العطاء بحكم طبيعتهم البشرية وترددت بينهم مقالة، حتى قال قائلهم لقي والله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه، فراعى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الاعتراض، وعمل على إزالة التوتر، وبين لهم الحكمة في تقسيم الغنائم، وخاطب الأنصار خطابًا إيمانيًّا عقليًّا عاطفيًّا وجدانيًّا، فعندما دخل عليه سعد بن عبادة، قال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم؛ لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء! قال: (فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ) قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: (فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ) قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتى سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: (يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ: مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ؟ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلّالًا فَهَدَاكُمْ اللّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللّهُ بِي؟ وَأَعْدَاءً فَأَلّفَ اللّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟) قَالُوا: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ وَأَفْضَلُ. ثُمّ قَالَ: (أَلَا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟) قَالُوا: بِمَاذَا نُجِيبُك يَا رَسُولَ اللّهِ؟ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنّ وَالْفَضْلُ. قَالَ: (أَمَا وَاَللّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدّقْتُمْ: "أَتَيْتَنَا مُكَذّبًا فَصَدّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ"، أَوَجَدْتُمْ عَلَيّ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا؟، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ، أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَوَادِيًا، وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا وَوَادِيًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ وَوَادِيَهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنّاسُ دِثَارٌ5، اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ) فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قسماً وحظاً، ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرقو6.

وينبغي الانتباه إلى أن القالة التي  ترددت بين الأنصار لا تعبر عن جميعهم، إنما قالها البعض، وإلا فالأنصار هم الذين باعوا دنياهم وعلاقاتهم القبلية واشتروا بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعلوه منهم كالابن من أبيه، والوالد من ولده، وهم الذين بذلوا أرواحهم في مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفدوه بأرواحهم وأنفسهم، وهم الذين آخوا المهاجرين أخوَّةً لم يعرف التأريخ مثلها، ولم تشهد العصور إيثارها وآصرتها الوثيقة، (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة الحشر: (9).

إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب للأنصار صورة مؤثرة: قوم يبشرون بالإيمان يقابلهم قوم يبشرون بالجِمال، وقوم يصحبهم رسول الله يقابلهم قوم يصحبهم الشاة والبعير، لقد أيقظتهم تلك الصور, وأدركوا أنهم وقعوا في خطأ ما كان لأمثالهم أن يقع فيه، فانطلقت حناجرهم بالبكاء ومآقيهم بالدموع, وألسنتهم بالرضا، وبذلك طابت نفوسهم واطمأنت قلوبهم بسياسة النبي -صلى الله عليه وسلم- الحكيمة في مخاطبة الأنصار7.

وبعد توزيع الغنائم قدم وفد هوازن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألوه أن يمن عليهم بالسبي، وقال شاعرهم مستعطفاً مستجدياً النبي عليه الصلاة والسلام:

امنن علينا رسولَ الله في كرمِ امنن على بيضةٍ قد عاقها قدرٌ أبقتْ لنا الدهرَ هتافاً على حزنٍ إن لم تداركْهمُ نعماء تنشرها امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها لا تجعلنَّا كمن شالت نعامته إنا لنشكر للنعماء إذ كُفرتْ فألبس العفو من قد كنت ترضعه

 

 

فإنك المرء نرجوه وننتظرُ مشتتٌ شملها في دهرها غِيَرُ على قلوبهم الغماءُ والغمرُ يا أرجح الناس حلمًا حين يختبرُ إذ فوك تملؤه من محضها الدَّررُ وإذ يزينك ما تأتي وما تذرُ واستبقِ منا فإنا معشر زهرُ وعندنا بعد هذا اليوم مدَّخرُ من أمهاتك إن العفو مشتهرُ8

 

فلما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الشعر قال: (أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم، أم أموالكم؟) قالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئًا، فقال: (أما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس) فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال العباس بن مرداس: وهنتموني، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئاً، فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه أن يرده فسبيل ذلك، ومن أبى فليرد عليهم، وليكن ذلك فرضاً علينا بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفئ الله علينا)، قالوا: رضينا وسلمنا، فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، ولم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن فإنه أبى أن يرد عجوزا صارت في يديه منهم ثم ردها بعد ذلك، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كسا السبي قِبطيةً قبطيةً -نوع من الثياب-9.

ويظهر في تقسيم غنائم هوازن وإعطاء المؤلفة الذين هم حديثو عهد بالإسلام: حقارة الدنيا، وكيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تألف بها أهل الطمع فيها والرغبة في أعراضها، ووكل سادات المهاجرين والأنصار إلى ما في قلوبهم من الإيمان، وإلى ثواب الرحمن، فاختار لكل قوم ما هو أليق بحالهم ورغباتهم، وقد خفيت هذه الحكمة على بعض الأنصار فقالوا: "يغفر الله لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فلما جلاها لهم اطمأنوا لقسمهم ونصيبهم وفرحوا بحظهم، وكفاهم حظاً وشرفاً وسعادة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعود إلى المدينة ويترك بلده وبلد أجداده وأهله وعشيرته، أما المؤلفة قلوبهم فقد أثر فيهم هذا العطاء حتى قال صفوان بن أمية: مازال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطيني من غنائم حنين، وهو أبغض الخلق إليَّ، حتى ما خلق الله شيئاً أحب إليَّ منه10.

وفي القصة رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشفقته على من رضع منهم ونشأ بينهم، وهذا ذروة سنام الكرم والرحمة وهو العفو عند المقدرة، وحفظ الجميل والمعروف، فقد وقف أمام استجداء القوم مستجيباً ملبياً لهم راحماً شفيقاً.

ومن جمال كرمه عطاؤه عطاء من لا يخشى الفقر والفاقة، تعبيراً عن استغنائه عن الدنيا ومتاعها، وقد ظهرت مكانة الأنصار العظمى حين وقف معهم النبي -صلى الله عليه وسلم- شاكراً لهم ذاكراً لمحاسنهم، مزكياً لفضائلهم، داعياً لهم ولأبنائهم، أودعهم المسجد الكريم والحجرة، ورضي بالانتماء إليهم لولا الهجرة، فلو لم تكن كان أنصارياً، ولو كانوا أرضاً قحلة لكان لها ريَّا، وقد سلك شعب الأنصار، وعرَّج في واديهم، ورجع إليهم حين رجع الناس إلى ناديهم، فاللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، ولجميع المسلمين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وصلِّ اللهم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلِّم.


 


1 مغازي الواقدي: (1/944)، السيرة النبوية لابن كثير: (3/667)، زاد المعاد: (3/408).

2 مغازي الواقدي: (1/944).

3 زاد المعاد: (3/408)، الرحيق المختوم: (426).

4 صحيح مسلم: (4276).

5 الشعار ما يلي الجسم والدثار الذي يكون فوقه، وهي كناية على أن الأنصار ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم من غيرهم.

6 زاد المعاد: (3/408)، وأصل القصة في الصحيحين: صحيح البخاري: (3985)، ومسلم: (1758).

7 السيرة النبوية للصلابي: (790) ينقل عن: المجتمع المدني في عهد النبوة، (219).

8 عيون الأثر: (2/224).

9 عيون الأثر لابن سيد الناس: (2/223)، وزاد المعاد: (3/471).

10 وقفات تربوية مع السيرة النبوية لأحمد فريد: (352).