صلاة الخوف

صلاة الخوف

صلاة الخوف

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين،نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين،والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

 أمَّا بعدُ:

فإنَّ الصلاة مكانتها عظيمة،ومن عظمتها أنها لا تترك أبداً،حتى في أشد أوقات الخوف،لا يجوز تركها، لما لها من مكانة عظيمة، حتى والمسلمون في قتالهم للعدو وجهادهم له وهذا واجب عليهم لم يُسقط عنهم فرضية الصلاة، على الرغم من أنهم يؤدون واجباً آخر وعبادة أخرى,لكن هذه الفريضة لا تُسقط عنهم،بل عليهم أن يؤدوها،والله لا يوجب علينا شيئاً إلا ولنا فيه خير عظيم،ولا يكلفنا بما لا طاقة لنا به،فهو أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا.

مشروعية صلاة الخوف:

تشرع صلاة الخوف في كل قتال مباح؛ كقتال الكفار والبغاة والمحاربين؛ لقوله-تعالى-: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} النساء: 101، وقيس عليه الباقي ممن يجوز قتاله، ولا تجوز صلاة الخوف في قتال محرَّم(1).

والدليل على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع:

أما الكتاب: فقال-تعالى-: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} النساء: 102.

وأما السنة: فقد ثبت وصح أنه-صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة الخوف في أربعة مواضع: في غزوة ذات الرقاع،وبطن نخل(2), وعُسْفان(3)، وذي قرَد(4)، وقد صلاها مرات كثيرة،ووردت أحاديث في صفة صلاتها,سيأتي ذكرها في كيفية صلاة الخوف.

وأجمع الصحابة على فعلها،وصلاها علي وأبو موسى الأشعري وحذيفة(5).

شروط صلاة الخوف:

1-  أن يكون العدو يحل قتاله،سواء أكان واجباً كقتال الحربيين، والبغاة، والمحاربين (قطاع الطرق) القاصدين سفك الدماء وهتك الحرمات، لقوله- تعالى-: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا}،أم جائز كقتال من أراد أخذ مال المسلمين.

2-  أن يخاف هجوم العدو أو السبع حال الصلاة؛ أو خوف الغرق أو الحرق، وسواء أكان الخوف على النفس أم المال فيجوز صلاة الخوف عند الجمهور(6).

صفة صلاة الخوف:

قال الإمام أحمد: "ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز"، وقال ابن القيم -رحمه الله-: "أُصولُها ست صفات,وأبلغها بعضهم أكثر،وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجهاً فصارت سبعة عشر،لكن يمكن أن تتداخل أفعال النبي-صلى الله عليه وسلم-، وإنما هو من اختلاف الرواة"، قال الحافظ: "وهذا هو المعتمد"(7).

الصفة الأولى: ما ورد في حديث سهل ابن أبي حثمة الأنصاري-رضي الله عنه-, وقد اختار الإمام أحمد العمل بها; لأنها أشبه بالصفة المذكورة في القرآن الكريم, وفيها احتياط للصلاة واحتياط للحرب, وفيها نكاية بالعدو, وقد فعل- عليه الصلاة والسلام- هذه الصلاة في غزوة ذات الرقاع,وصفتها كما رواها سهل هي: أن طائفة صفت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وطائفة وجاه العدو, فصلى بالتي معه ركعة, ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم, ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو, وجاءت الطائفة الأخرى, فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته, ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم, ثم سلم بهم" متفق عليه.

الصفة الثانية: ما روى جابر-رضي الله عنه-,قال:(شهدت مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-صلاة الخوف,فصففنا صفين-والعدو بيننا وبين القبلة-, فكبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فكبرنا, ثم ركع وركعنا جميعاً, ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً, ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه, وقام الصف المؤخَّر في نحر العدو, فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- السجود, وقام الصف الذي يليه; انحدر الصف المؤخَّر بالسجود, وقاموا, ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم, ثم ركع وركعنا جميعاً, ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً, ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وكان مؤخراً في الركعة الأولى,وقام الصف المؤخر في نحر العدو, فلما قضى -صلى الله عليه وسلم- السجود, وقام الصف الذي يليه; انحدر الصف المؤخَّر بالسجود, فسجدوا, ثم سلم -صلى الله عليه وسلم- وسلمنا جميعاً) رواه مسلم.

الصفة الثالثة: ما رواه ابن عمر,قال:(صلى النبي صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين والأخرى مواجهة العدو, ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو,وجاء أولئك, فصلى بهم ركعة, ثم سلم, ثم قضى هؤلاء ركعة, وهؤلاء ركعة) متفق عليه.

الصفة الرابعة: أن يصلي بكل طائفة صلاة,ويسلم بها, رواه أحمد وأبو داود والنسائي(8).

الصفة الخامسة: ما رواه  جابر;قال:(أقبلنا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-حتى إذا كنا بذات الرقاع،قال: فنودي للصلاة,فصلى بطائفة ركعتين,ثم تأخروا,فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين،قال:فكانت لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-أربع وللقوم ركعتان) متفق عليه.

الصفة السادسة: أنها قامت مع النبي-صلى الله عليه وسلم-طائفة،وطائفة أخرى مقابل العدو،وظهورهم إلى القبلة؛فكبَّر فكبروا جميعاً الذين معه والذين مقابل العدو،ثم ركع ركعة واحدة ركعت الطائفة التي معه،ثم سجد فسجدت التي تليه,والآخرون قيام مقابل العدو،ثم قام وقامت الطائفة التي معه,فذهبوا إلى العدو وقابلوهم,وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو،فركعوا وسجدوا،ورسول الله-صلى الله عليه وسلم- قائم كما هو ثم قاموا فركع رسول الله  صلى الله عليه وسلم ركعة آخرى، فركعوا معه؛ وسجد وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد ومن معه ثم كان السلام، فسلم وسلموا جميعاً، فكان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركعتان؛ وللقوم لكل طائفة ركعتان. رواه أحمد والنسائي وأبو داود.

كيفية صلاة المغرب:

قال الشوكاني -رحمه الله-: (وأما صلاة المغرب فقد وقع الإجماع على أنه لا يدخلها القصر, ووقع الخلاف هل الأولى أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعتين والثانية ركعة أو العكس؟ ولم يثبت في ذلك شيء عن النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-،وقد روي أن علياً-عليه السلام-صلاها ليلة الهرير(9) واختلفت الرواية في حكاية فعله كما اختلفت الأقوال،والظاهر أن الكل جائز؛وإن صلى لكل طائفة ثلاث ركعات فيكون له ست ركعات،وللقوم ثلاث ركعات؛فهو صواب قياساً على فعله في غيرها، وقد تقرر صحة إمامة المتنفل بالمفترض)(10).

الصلاة عند التحام القتال واشتداد الخوف:

قال ابن قدامة -رحمه الله-: (وإذا كان الخوف شديداً وهم في حال المسايفة صلوا رجالاً وركباناً إلى القبلة وإلى غيرها، يومئون إيماء يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا أو إلى غيرها،أما إذا اشتد الخوف والتحم القتال فلهم أن يصلوا كيفما أمكنهم رجالاً وركباناً، إلى القبلة إن أمكنهم وإلى غيرها إن لم يمكنهم، يومئون بالركوع والسجود على قدر الطاقة،ويجعلون السجود أخفض من الركوع،ويتقدمون ويتأخرون ويضربون، ويطعنون،ويكرون ويفرون،ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وهذا قول أكثر أهل العلم)(11).

وقد أخرج البخاري عن ابن عمر- في تفسير سورة البقرة- بلفظ:(فإنْ كان خوفٌ أشدُّ من ذلكَ,صلُّوا رجالاً قياماً على أقدامهم,أو ركباناً مُستقبلي القبلة,وغير مستقبليها)، قال مالك: قال نافعٌ:(لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-)(12).

وروى ابن ماجه عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنَّ النَّبيَّ-صلى الله عليه وسلم- وصف صلاة الخوف,وقال:(فإن كان خوف أشد من ذلك فرجالاً ورُكباناً)(13).

وعن عبد الله بن أنيس,قال:(بعثني رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-إلى خالد بن سفيان الهذلي,وكان نحو عرنة وعرفات,فقال: اذهب فاقتله، قال: فرأيته وقد حضرت صلاة العصر؛ فقلت: إني لأخاف أن يكون بينى وبينه ما يؤخر الصلاة،فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه)(14). قال الشوكاني -رحمه الله- معلقاً على هذا الحديث: (ومن البعيد أن لا يخبر النبي-صلى الله عليه وسلم- بذلك؛ ولو أنكره لذكر ذلك)(15).

نسأل الله أن يعيننا على كل خير،وأن يجنبنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن،وأن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا،ومن فوقنا ومن تحتنا،وصلى الله وسلم على نبينا محمد,وعلى آله وصحبه أجمعين،والحمد لله رب العالمين.

 


 


1 – راجع: الملخص الفقهي (صـ 171)، منار السبيل (1/139).

2 – اسم موضع في نجد بأرض غطفان.

3 – يبعد عن مكة نحو مرحلتين.

4 – ماء على بريد من المدينة، وتعرف بغزوة الغابة.

5 – الفقه الإسلامي (2/432).

6 – راجع الملخص الفقهي (صـ 172)، والفقه الإسلامي (2/433- 434)، ومنار السبيل (1/140).

7 – فتح الباري (2/431)، ونيل الأوطار (4/3).

8 – صححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (1112).

9 – هي من الليالي التي كانت فيها معركة شرسة بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- جميعاً وكانت في صفين.

10 – الدراري المضية شرح الدرر البهية (1/273-274).

11 – المغني (2/139).

12 – صحيح البخاري.

13 – قال الحافظ ابن حجر: "إسناده جيد" الفتح (2/501).

14 – رواه أحمد وأبو داود، وقال الحافظ ابن حجر: "إسناده حسن" فتح الباري (2/507).

15 – الدراري المضية شرح الدرر البهية (1/274).