أحكام الرهن

أحكام الرهن

أحكام الرهن

الحمد لله الذي أعلى معالم العلم وأعلامه، وأظهر شعائر الشرع وأحكامه، وبعث رسلاً وأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين إلى سبل الحق هادين، وأخلفهم علماء إلى سنن سننهم داعين، أما بعد:

فإن من أحكام البيع في الإسلام مسألة الرهن، وهو من أسباب التسهيل في البيع والشراء، فالرهن فيه إمهال المعدم والفقير إلى أجل معين ليحضر ثمن السلعة، وهذا من التعاون على البر والتقوى.

وفي هذا الدرس سنتطرق إلى مسائل وأحكام في الرهن، نبدأ ذلك بتعريف الرهن..

الرهن: بفتح أوله وسكون الهاء: في اللغة: الاحتباس من قولهم رهن الشيء إذا دام وثبت، ومنه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (38) سورة المدثر.

وفي الشرع: جعل مال وثيقة على دين. ويطلق أيضاً على العين المرهونة تسمية للمفعول باسم المصدر.

وأما الرُّهُن: بضمتين، فالجمع، ويجمع أيضاً على رهان بكسر الراء ككتب وكتاب، وقرئ بهما.1

بحيث يمكن أخذ ذلك الدين، أو أخذ بعضه من تلك العين.

فإذا استدان شخص دينا من شخص آخر وجعل له في نظير ذلك الدين عقاراً أو حيواناً محبوساً تحت يده حتى يقضيه دينه، كان ذلك هو الرهن شرعاً.

ويقال لمالك العين المدين: "راهن"، ولصاحب الدين الذي يأخذ العين ويحبسها تحت يده نظير دينه: "مرتهن" كما يقال للعين المرهونة نفسها: "رهن".2

مشروعيته:

الرهن مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.

فأما بالكتاب فقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} (283) سورة البقرة.

وأما السنة فبما روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً إلى أجل معلوم وارتهن منه درعا من حديد".3

وأما بالإجماع: فقد انعقد على ذلك.4

ولم يختلف في جوازه ولا مشروعيته أحد، وإن كانوا قد اختلفوا في مشروعيته في الحضر.

مشروعيته في الحضر:

اختلف العلماء في مشروعية الرهن في الحضر، فقال الجمهور: يشرع في الحضر، كما يشرع في السفر؛ لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم له وهو مقيم بالمدينة، وأما تقيده بالسفر في الآية فإنه خرج مخرج الغالب، فإن الرهن غالباً يكون في السفر.

قال ابن حجر رحمه الله في قول البخاري في التبويب للحديث بفي الحضر: "فيه إشارة إلى أن التقييد بالسفر في الآية خرج للغالب، فلا مفهوم له لدلالة الحديث على مشروعيته في الحضر، وهو قول الجمهور، واحتجوا له من حيث المعنى بأن الرهن شرع توثقة على الدين لقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (283) سورة البقرة فإنه يشير إلى أن المراد بالرهن الاستيثاق، وإنما قيده بالسفر لأنه مظنة فقد الكاتب فأخرجه مخرج الغالب.

وخالف في ذلك مجاهد والضحاك فيما نقله الطبري عنهما فقالا: لا يشرع إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب، وبه قال داود وأهل الظاهر.

وقال ابن حزم: إن شرط المرتهن الرهن في الحضر لم يكن له ذلك، وإن تبرع به الراهن جاز، وحمل حديث الباب على ذلك.5 والحديث حجة عليهم.

شروط صحته:

يشترط لصحة عقد الرهن الشروط الآتية:

أولاً: العقل، فلا يصح الرهن من المجنون.

 ثانياً: البلوغ، فلا يصح من الصبي غير البالغ.

ثالثاً: أن تكون العين المرهونة موجودة وقت العقد، ولو كانت مشاعة.

قال القرطبي: "قال علماؤنا: فيه ما يقتضي بظاهره ومطلقه جواز رهن المشاع، خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه، فإنه لا يجوز عندهم أن يرهنه ثلث دار ولا نصفاً من عبد ولا سيف.

وقال ابن المنذر: وهذا إجازة رهن المشاع؛ لأن كل واحد منهما مرتهن نصف دار. وقال: رهن المشاع جائز كما يجوز بيعه.6

رابعاً: أن يقبضها المرتهن أو وكيله.

قال الشافعي: لم يجعل الله الحكم إلا برهن موصوف بالقبض، فإذا عدمت الصفة وجب أن يعدم الحكم.

أركان الرهن:

للرهان أركان خمسة هي: الراهن. والمرهون. والمرتهن. والشيء الذي فيه الرهن. وصفة عقد الرهن.

الركن الأول: فأما الراهن: فلا خلاف أن من صفته أن يكون غير محجور عليه من أهل السداد، والوصي يرهن لمن يلي النظر عليه إذا كان ذلك سدادا ودعت إليه الضرورة عند مالك.

وقال الشافعي: يرهن لمصلحة ظاهرة، ويرهن المكاتب والمأذون عند مالك.

قال سحنون: فإن ارتهن في مال أسلفه لم يجز، وبه قال الشافعي.

واتفق مالك والشافعي على أن المفلس لا يجوز رهنه، وقال أبو حنيفة: يجوز، واختلف قول مالك في الذي أحاط المدين بماله هل يجوز رهنه؟ أعني هل يلزم أم لا يلزم؟ فالمشهور عنه أنه يجوز، أعني قبل أن يفلس.

الركن الثاني: وهو الرهن، قالت الشافعية: يصح بثلاثة شروط:

الأول: أن يكون عيناً، فإنه لا يجوز أن يرهن الدين.

الثاني: أن لا يمتنع إثبات يد الراهن المرتهن عليه كالمصحف؛ ومالك يجيز رهن المصحف ولا يقرأ فيه المرتهن، والخلاف مبني على البيع.

الثالث: أن تكون العين قابلة للبيع عند حلول الأجل؛ ويجوز عند مالك أن يرتهن ما لا يحل بيعه في وقت الارتهان كالزرع والثمر لم يبد صلاحه ولا يباع عنده في أداء الدين إلا إذا بدا صلاحه وإن حل أجل الدين؛ وعند الشافعي قولان في رهن الثمر الذي لم يبد صلاحه، ويباع عنده عند حلول الدين على شرط القطع.

قال أبو حامد: والأصح جوازه؛ ويجوز عند مالك رهن ما لم يتعين كالدنانير والدراهم إذا طبع عليها، وليس من شرط الرهن أن يكون ملكا للراهن لا عند مالك ولا عند الشافعي، بل قد يجوز عندهما أن يكون مستعاراً.

الركن الثالث: وهو الشيء المرهون فيه، وأصل مذهب مالك في هذا أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان الواقعة في جميع البيوعات إلا الصرف ورأس المال في السلم المتعلق بالذمة، وذلك لأن الصرف من شرطه التقابض.

فلا يجوز فيه عقدة الرهن، وكذلك رأس مال السلم وإن كان عنده دون الصرف في هذا المعنى.

وقال قوم من أهل الظاهر: لا يجوز أخذ الرهن إلا في السلم خاصة: أعني في المسلم فيه، وهؤلاء ذهبوا إلى ذلك لكون آية الرهن واردة في الدين في المبيعات وهو السلم عندهم، فكأنهم جعلوا هذا شرطا من شروط صحة الرهن.7

الانتفاع بالمرهون:

عقد الرهن عقد يقصد به الاستيثاق وضمان الدين وليس المقصود منه الاستثمار والربح، وما دام ذلك كذلك فإنه لا يحل للمرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة، ولو أذن له الراهن، لأنه قرض جر نفعاً، وكل قرض جر نفعاً فهو رباً.

وهذا في حالة ما إذا لم يكن الرهن دابة تركب أو بهيمة تحلب، فإن كان دابة أو بهيمة فله أن ينتفع بها نظير النفقة عليها، فإن قام بالنفقة عليها كان له حق الانتفاع، فيركب ما أُعد للركوب كالإبل والخيل والبغال ونحوها ويحمل عليها، ويأخذ لبن البهيمة كالبقر والغنم ونحوها.

هذا مذهب أحمد وإسحاق، وخالف في ذلك الجمهور من العلماء وقالوا: لا ينتفع المرتهن بشيء.

والأحاديث التالية حجة عليهم: فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة).8

وعن الشعبي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً، والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويحلب النفقة).9

وقالت المالكية: يلزم الرهن بالعقد ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن، ومتى قبضه المرتهن فإن الراهن يملك الانتفاع به، خلافاً للشافعي الذي قال: بأن له حق الانتفاع ما لم يضر بالمرتهن.10

مؤونة الرهن ومنافعه:

ذهب قوم إلى أن نماء الرهن المنفصل لا يدخل شيء منه في الرهن: أعني الذي يحدث منه في يد المرتهن، وممن قال بهذا القول الشافعي.

وذهب آخرون إلى أن جميع ذلك يدخل في الرهن، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة والثوري.

وفرق مالك فقال: ما كان من نماء الرهن المنفصل على خلقته وصورته، فإنه داخل في الرهن كولد الجارية مع الجارية، وأما ما لم يكن على خلقته فإنه لا يدخل في الرهن كان متولدا عنه كثمر النخل أو غير متولد ككراء الدار وخراج الغلام.11

فإذا أنفق المرتهن على الرهن بإذن الحاكم مع غيبة الراهن وامتناعه كان ديناً للمنفق على الراهن.12

غلق الرهن:

كان من عادة العرب أن الراهن إذا عجز عن أداء ما عليه من دين خرج الرهن عن ملكه، واستولى عليه المرتهن، فأبطله الإسلام ونهى عنه.

ومتى حل الأجل لزم الراهن الإيفاء وأداء ما عليه من دين، فإن امتنع من وفائه ولم يكن أذن له ببيع الرهن أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن، فإن باعه وفضل من ثمنه شيء فلمالكه، وإن بقي شيء فعلى الراهن.

ففي حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر: أن رجلاً رهن داراً بالمدينة إلى أجل مسمى، فمضى الأجل، فقال الذي ارتهن: منزلي.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه).13

اشتراط بيع الرهن عند حلول الأجل:

فإذا اشترط بيع الرهن عند حلول الأجل جاز هذا الشرط وكان من حق المرتهن أن يبيعه، خلافا للإمام الشافعي الذي يرى بطلان الشرط.

بطلان الرهن:

ومتى رجع الرهن إلى الراهن باختيار المرتهن بطل الرهن.14

وباب الرهن من أوسع الأبواب تناولنا بعض جوانبه في هذا الدرس.

فنسأل الله أن يوفقنا لكل خير، وأن يصلح أعمالنا ويجعلها في رضاه، والحمد لله رب العالمين.

 


 


1 فتح الباري لابن حجر (7/459).

2 فقه السنة للسيد سابق – دار الفكر: ط1-1418هـ-1997م: (3/154)

3 رواه البخاري برقم (2134) ومسلم (1603).

4 فتح القدير: تأليف: الكمال بن الهمام (23/6).

5 فتح الباري لابن حجر (7/459).

6 تفسير القرطبي  (3/411).

7 بداية المجتهد: لمحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (2/221).

8 رواه البخاري برقم (2377).

9 رواه أبو داود برقم (3526) وصححه الإمام الألباني في صحيح الجامع، حديث رقم: (5060).

10 فقه السنة، للسيد سابق: (3/135).

11 بداية المجتهد (1/1082).

12 فقه السنة (3136).

13 رواه ابن حبان في صحيحه برقم (5934) وقال شعيب الأرنؤوط: رجاله ثقات رجال الشيخين غير إسحاق، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: رجاله ثقات، إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله، قال الألباني: مرسل، انظر إرواء الغليل رقم (1406).

14 فقه السنة (3/137).